للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المحاورة التاسعة بين المصلح والمقلد
التقليد والتلفيق والإجماع
لمَّا ضم الشابَّ المصلح والشيخ المقلد المجلسُ التاسع ومعهما المقلد الثاني، أو
المناظر الثالث - ابتدأ المقلد الكلام فقال للمصلح: لم يبق إلا أن تبين لنا رأيك في
الوحدة الإسلامية بالنسبة للمعاملات والأحكام السياسية والقضائية، ونحن نجمع ما
عندنا من الانتقاد عليك، ثم نسرده سردًا.
الثالث: إنني لست على ثقة من حضور مجالسكم كلها، فلا بد من البحث في
كلام الإمام الغزالي السابق قبل أن يطول عليه الأمد؛ فإن هذا الإمام لم يحرِّم التقليد
كما حرمه صاحبنا؛ وإنما أباحه بالنسبة لمن عمل بالمُجْمَع عليه وعرضت له
مسائل مما اختلف فيه، فذهب إلى أن له الأخذ في ذلك بقول من يغلب على ظنه
أنه الأفضل، وهو قول لعلماء الأصول القائلين بالتقليد، وبعضهم يخالف فيه
ويقول بعدم اشتراطه لأن المقلد لا رأي له فيختار الأفضل.
المصلح: قد علمتم أنني أبديت رأيي في الوحدة الإسلامية وإنقاذ المسلمين من
ظلمات الاختلافات التي كانت أصل مرضهم وجرثومة دائهم قبل أن أطلع على كلام
الإمام الغزالي - رحمه الله تعالى - فلست مقلدًا له فيه؛ ولكنني أحمد الله تعالى من
صميم قلبي على موافقة فهمي في الدين لفهم حجة الإسلام وعلم الأعلام، وقد علمتم
أنه اكتفى في جمع كلمة المسلمين بأن يأخذوا عقيدتهم من القرآن الكريم، وأن
يعملوا بما أجمعت عليه الأئمة وتلقته بالقبول الأمة، ولم يكلِّف العامة بأكثر من هذا
الذي جزم بأنه هو الدواء الذي لا يحتاجون سواه، ثم إنه فرض وجود رجل صالح
فرغ من حدود التقوى كلها بترك كل ما اتفقوا على وجوب تركه، وفعل كل ما
أجمعوا على طلب فعله عند الاستطاعة، وتحير في مسائل الخلاف التي تدور بين
النفي والإثبات، فحكم على هذا بأن ينظر في أقوال الأئمة وفي سيرهم، فمن عُلم
من سيرته أنه أعلم وأحكم، ومن دليله ومدلوله أنه أقوم وأسلم، يأخذ بقوله، وقد
سُمِّي هذا النظر اجتهادًا وهو كذلك، وإنما يسمى صاحبه - كما قال ولي الله
الدهلوي - المجتهد المنتسب لأنه سار في اجتهاده على طريقة غيره بعد العلم بها،
وكذلك كان أصحاب الأئمة المجتهدين كأبي يوسف ومحمد اجتهدوا على طريقة أبي
حنيفة ومنهاجه في الاستنباط ولم يقلدوه، على أن هذه المسائل الفرعية الخلافية التي
يُعذر الإنسان بجهلها، ويُعذر بالخطأ إذا هو اجتهد فيها فأخطأ على ما هو معروف
عند الجميع - لا يضر بالوحدة الإسلامية تقليد مثل ذلك الرجل الصالح فيها أي إمام
وإن لم ينظر في حاله ودليله؛ وإنما المضر هو تفريق المسلمين شيعًا وأحزابًا، يلتزم
كل حزب الأخذ بقول عالم يسميه إمامه ويقلده هو والمنتمين إليه في كل أقوالهم
وآرائهم، ويتعصب على الحزب الذي يأخذ بأقوال العالم الآخر وآرائه حتى يؤدي ذلك
إلى إهمال الكتاب والسنة، وما يثبت بالاختبار أن فيه مصلحة الأمة في سياستها
وأحكامها إلى آخر ما أطلنا القول فيه من قبل، وقد يسرت الأمر في هذه المسائل
الفرعية الخلافية فجعلت العامي فيها مخيرًا بشرط الاحتياط بقدر الإمكان وعدم اتباع
الهوى، والإمام الغزالي وإن قال بجواز تركها أيضًا؛ فإنه ضيَّق على من أراد العمل
بها وألزمه بضرب من الاجتهاد إن لم يكن ما يسمون صاحبه المجتهد المنتسب، فليكن
ما يسمونه (الاجتهاد في المذهب) نعم إنه فرض وجود مثل هذا فرضًا بكلمة (لو)
وأشار قبل ذلك إلى أنه لا يكاد يوجد حيث قال: (ومتى تفرَّغ العامي من هذا إلى
مواضع الخلاف؟)
الثالث: بقي في نفسي قول (الدر المختار) : إن الحكم الملفق باطل
بالإجماع، ومعلوم أنه لولا قول هؤلاء المجمعين بالتقليد لما كان لنفي التلفيق فيه
معنى، فهم إذن مجمعون على التقليد، فما وجه هذه المناقشة في شيء صح فيه
الإجماع؟
المصلح: يصح أن يكون منعهم التلفيق لمنع التقليد أي لا يصح التلفيق لأنه
تقليد، والتقليد باطل ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص، والجواب التحقيقي أن
دعوى الإجماع ممنوعة، وتجد ذكر الخلاف في أشهر كتبكم الأزهرية كحواشي
الأمير وحواشي الباجوري على جوهرة التوحيد للقاني، ومن العجيب أن ينقل
صاحب الدر هذا القول الذي لم يقل به أحد من أئمة مذهبه، وكيف يقولونه
والمذهب كله تلفيق لأنه مذهب ثلاثة أئمة، ومن آية عدم قول أئمة الحنفية بمنع
التلفيق أن مجتهدهم في القرون المتوسطة الكمال بن الهمام نسبه في تحريره إلى
متأخر وعنى به - كما قاله شارحه - القرافي المالكي، فلو كان في المسألة نص عن
أئمتهم وهو أعلم الناس بذلك لما اقتصر على نسبتها إلى رجل واحد من متأخري
المالكية إذ قال (وقَيَّدَه متأخر) ... إلخ.
أما فتاواهم في التلفيق الصريح فهي كثيرة، ومن أشهرها وقف المنقول على
النفس الملفق من قول أبي يوسف بجواز الوقف على النفس دون المنقول، وقول
محمد بجواز وقف المنقول دون الوقف على النفس، وممن صرح بأن هذا تلفيق
الطرسوسي، وذكر أن في منية المفتي ما يفيد جواز الحكم المركب كذا في تنقيح
الحامدية لابن عابدين عمدتهم في المتأخرين، وفيه أيضًا بعد أن ذكر عن الشلبي أن
وقف الدراهم على النفس ملفق من قول أبي يوسف وزفر وأن الطرسوسي حشى
على جوازه ما نصه: ورأيت بخط شيخ مشايخنا ملا علي التركماني في مجموعته
الكبيرة عن خط الشيخ إبراهيم السؤالاتي بعد هذه المسألة المنقولة عن الشلبي ما
نصه: وبالجواز أفتى شيخ الإسلام أبو السعود في فتاواه، وأن الحكم ينفذ وعليه
العمل اهـ. أما الذي في المنية فهو أن الحكم بشهادة الفساق على الغائب ينفذ وإن
كان القائل بجواز الحكم على الغائب يمنع شهادة الفساق، وذكر ابن نجيم في رسالته
في بيع الوقف بغبن فاحش مثل ما في المنية عن البزازية وجزم بأن المذهب جواز
التلفيق حيث لم يكن فيه رجوع عما عمل فيه تقليدًا أو لازمه الإجماعي، أخذ من
إطلاقهم جواز تقليد غير من قلده في غير ما عمل به، فانظر أين تضع زعم
صاحب الدر المختار الإجماع على منع التلفيق.
الثالث: إن العلامة ابن عابدين قد رفع الإشكال عن شبهة التلفيق في مذهب
الحنفية بأن التلفيق الممنوع إنما هو ما كان من مذاهب متباينة، وأما إذا كان من
أقوال أهل المذهب الواحد فلا لأن أقوالهم مبنية على قواعد إمامهم أو مروية عنه.
المصلح: هذا تحكم لا يقبله عاقل؛ فإن القاعدة الواحدة لا يمكن أن تفيد
النقيضين، ولا يمكن أن يقول عاقل ولو مقلدًا بقولين متناقضين كما في مسألتنا التي
مثلنا بها - وقف المنقول على النفس - فإذا وجدنا روايتين متناقضتين عن إمام
نحكم بأنه رجع عن إحداهما إن كانت الرواية صحيحة فيهما، كما نحكم في
الحديثين المتناقضين بأن أحدهما منسوخ إذا لم يمكن الجمع، ولا جمع بين النقيضين،
وإنما يمكن الجمع بين المتخالفين بغير التناقض، قل لي أيها القاضي الفاضل أليس
اتفاق مثل أبي حنيفة ومالك - رحمهما الله تعالى - في أصول الدين عقائده وأحكامه
أقرب من اتفاق أبي حنيفة مع صاحبيه أو أحد صاحبيه مع الآخر في هذه الفروع
الاجتهادية؟ فلماذا لا تجعلون أهل الدين الواحد كأهل المذهب الواحد، إن كان أهل
المذاهب يجتمعون في بعض القواعد، فأهل الدين يجتمعون في جميع الأصول
والعقائد.
المقلد: هل يمكن أن يكون صاحب الدر مخترعًا لدعوى الإجماع، أم لا بد
له من نقل؟
الثالث: حاش لله أن يقول هذا الفقيه العلامة من عند نفسه شيئًا، فلا بد أن
يكون ناقلاً.
المصلح: صدقت ليس لمثله أن يقول شيئًا؛ لأنه ملقد والمقلد لا علم له فيقول
وإنما ينقل قول غيره وفاقًا لحضرة القاضي، وقد نقل هذه المسألة عن العلامة قاسم
وهو نقلها عن توفيق الحكام، وسواء كان هو الذي قالها أم صاحب توفيق الحكام فهي
منقوضة، والخلاف في المسألة محكي والقائلون بالتلفيق كثيرون، وقد سمعتم ما نقله
الكمال عن القرافي المالكي، وإليكما ما في حاشية ابن عرفة المالكي على الشرح
الكبير عند قول المتن مبينًا ما به الفتوى وهو: وفيه أيضًا - أي في الشبرخيتي -
امتناع التلفيق، والذي سمعناه من شيخنا نقلاً عن شيخه الصغير وغيره الصحيح
جوازه وفيه فسحة.
المقلد: إنني والله لفي حيرة من الجراءة على دعوى الإجماع في مسائل فيها
مثل هذا الخلاف والترجيح.
المصلح: لو راجعت كتب الأصول وكتب السنة والخلاف وشروحها ورأيت
خلاف العلماء في الإجماع نفسه لفهمت حق الفهم قولي السابق: (وأما العبادات فما
بينته السنة بالعمل، وتناقله الخلف عن السلف كذلك بالاتفاق حتى صار معلومًا من
الدين بالضرورة هو الذي يجب أن يأخذ به كل مسلم) فإنني لم أذكر السُّنة العملية
عبثًا، وكيف وإنني أعرف كثيرًا من المسائل الخلافية ادَّعوا فيها الإجماع، وذلك
أن أحدهم يطلق هذا اللفظ على ما لا يُعلم فيه خلافًا، وهل يحيط أحد غير الله تعالى
بآراء الناس وأقوالهم في عصر من الأعصار.
وإنني أذكر لكم مجمل أقوال العلماء في الإجماع، وإذا اقتضت المناظرة
تفصيلاً فإنني أذكره في وقته، قال بعضهم: إن الإجماع غير ممكن، وقال آخرون:
إنه ممكن لكنه لا يقع، وقال غيرهم: إنه يقع ولكن لا سبيل إلى العلم به فنقله متعذر
وغير ممكن، وذهب آخرون إلى أن النقل ممكن؛ ولكنه لم يقع، وحسبكم من دعوى
القائلين بالوقوع مسألتنا، ثم اختلف العلماء في طريق نقل الإجماع ومتى يكون حجة
يجب العمل، فقال بعضهم لأنه تقبل فيه أخبار الآحاد، أي بل لا بد من التواتر،
ونسب هذا القول إلى الجمهور القاضي في التقريب والغزالي في كتبه، وقال بعضهم:
إنه ليس حجة بالمرة ولا دليل على حجيته من النقل ولا من العقل، وقال قوم منهم
الإمام الرازي والآمدي إنه حجة ظنية وذهب الأكثرون إلى أنه حجة قطعية على
خلاف لهم في الإجماع السكوتي والإجماع المسبوق بخلاف، وتسمية ما يقول به بعض
المجتهدين ويسكت عنه الآخرون، فلم يُنقل عنهم فيه خلاف ولا وفاق إجماعًا -
تساهل كبير، والكلام في هذا طويل ولا غرض لنا في الخلاف؛ وإنما غرضنا في
الوفاق. والذي اتفقوا عليه شيء واحد وهو أن الذي ينكر المُجْمَع عليه المعلوم من
الدين بالضرورة كافر خارج من جماعة المسلمين، ومن عداه مؤمن سواء وافق الأكثر
أو الأقل؛ فإن الحق ليس مع الأكثر دائمًا {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف: ١٠٣) .
المقلد: دعنا من بحث الإجماع الآن وعد بنا إلى الكلام في دعواك أن أمر
الإمام الغزالي للمتحير في الخلاف بتقليد من يرى أنه أفضل وصوابه أغلب يستلزم
الاجتهاد في المذهب على الأقل، وكيف يأمر العامي بهذا النوع من الاجتهاد وهو
يحظر عليه النظر في غريب العلم كما تكرر في قوله.
المصلح: إنه لم يأمر كل عامي بالاجتهاد في المذاهب، ولا بتقليد أربابها؛
وإنما أمر بذلك شخصًا مخصوصًا فرض أنه عرف أمور الدين المتفق عليها وعمل
بها، وعرض له بعض الفروع المختلف فيها، ومثل هذا إن وجد يسهل عليه ما
ذكرناه من معرفة أحوال الأئمة ودلائلهم في الفرع أو الفروع التي تعرض له.
الثالث: إن الإمام قال: (فالمجتهدون ومقلدوهم كلهم معذورون بعضهم
مصيبون ما عند الله، وبعضهم يشاركون المصيبين في أحد الأجرين) ... إلخ،
وهو قول جازم بالتقليد على إطلاقه.
المصلح: المسائل المُجْمَع عليها المنقولة بالعمل - ومنه عمل اللسان كقراءة
الفاتحة في الصلاة - لا اجتهاد فيها ولا تقليد؛ لأن التقليد فرع الاجتهاد، والمسائل
الاجتهادية في العبادات قد علمنا حكمها عنده، وهو أن الناس ليسوا ملزمين بالبحث
عنها، ولا بالعمل بها إلا مثل ذلك الصالح المفروض، وقد علمنا أنه يأمره بنوع
من الاجتهاد ليعرف الراجح والمرجوح، وقد قلت لك من عهد قريب أنه لا ضرر
في تقليده أي إمام بها إذ لا ضرر في ترك العمل بها بالمرة؛ ولكن الدين الإسلامي
يأمر أصحابه بأن يكونوا على بصيرة في دينهم، ومن يأخذ برأي إنسان وهو لا
يعرف من سيرته شيئًا ولا يدري من أين أخذ ذلك الرأي بالمرة فلا بصيرة له بالمرة
وأما الاجتهاد في المعاملات والقضاء فهو الاجتهاد الحقيقي الذي يعجز عنه أكثر
الناس، ولا يقوم به إلا طائفة تتفرغ للاستعداد للقضاء والفتوى والتعليم، ويُلْزِم
الإمام أو السلطان سائل الناس بالعمل باجتهادهم على ما سنبينه تبيينًا، فإن أصاب
هؤلاء الحق والعدل فلهم أجران، وإن أخطأوا بعد التحري وبذل الجهد في المعرفة
فلهم أجر واحد، ويُعذرون هم ومقلدوهم العاملون بمقتضى اجتهادهم.
الثالث: إن قولك في العبادات مبني على القول بتجزؤ الاجتهاد إذا اعتبرنا أن
الأخذ بقول الإمام بعد معرفة حاله والوقوف على دليله تقليد له.
المصلح: أنت تعلم أن القائلين بهذا كثيرون، ومنهم ابن الصلاح والنووي من
الشافعية.
المقلد: ادَّعى بعض علماء الأصول الإجماع على أنه لا يُشترط في التقليد
اعتقاد أفضلية إمامه على سائر الأئمة.
المصلح: دعوى الإجماع مجازفة كما علمت من سابق القول؛ وإنما غرَّ
صاحب هذه الدعوى أخذ الصحابة بعضهم عن بعض، مع وجود الأفضل كالخلفاء
الأربعة وقد قدمنا أن هذا الأخذ من باب الرواية لا من باب التقليد، على أن
المفاضلة بين الأئمة والعلماء لأجل الأخذ عنهم بمسألة من المسائل هي ليست بمعنى
المفاضلة بين الخلفاء الأربعة وسائر الصحابة عليهم الرضوان، أي اعتقاد أن هذا
أفضل عند الله من ذاك؛ وإنما هي بمعنى أن هذا استوفى النظر في أدلة المسألة
بتحرٍّ واجتهاد أتم مما عند الآخر الذي ربما كان أفضل عند الله منه، وقد قالوا:
يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل، وإنني أعتقد أن أشد الأئمة الأربعة
اجتهادًا وأكثرهم صوابًا الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وأعتقد مع ذلك أن كل
واحد من الأئمة الثلاثة أصاب الحق في مسائل كثيرة مما خالفه فيه، فإذا عرضت
لي مسألة لم أهتد لطريق الاستدلال عليها من نفسي أنظر في أدلتهم وأعمل بما أراه
أرجح منها، فأكون من جهة مجتهدًا وعلى بصيرة من ديني؛ لأنني عملت كل ما
في إمكاني، ومن جهة أخرى مقلدًا لمن اهتديت بهديه في النظر، وسرت على
طريقه في الاستدلال، وليس هذا هو التقليد المذموم والضار.
المقلد: إن صدري يضيق من سماع الأدلة والحجج على ترك تقليد الأئمة
الذين سارت الأمة على اتَّباعهم لما أتوقعه من الفوضى في الدين بالنسبة لعامة
المسلمين، وأما العلماء فيسهل عليهم العمل بما تقول إذا أنصفوا وجدُّوا واجتهدوا.
المصلح: هل تظن أو تتوهم أن عامة المسلمين مقلدون للأئمة ومهتدون
بهديهم؟ إن كان يختلج هذا في نفسك فعاشرهم واختبرهم يتبين لك بطلانه، هؤلاء
العوام يقلد بعضهم بعضًا وأكثر ما بقي عندهم من معرفة أحكام الدين مجمع عليه،
والنادر من يعرف بعض الأحكام الخلافية معرفة ناقصة كالوسواس في النية، أي
عامي يعرف عقيدة أبي الحسن الأشعري أو أبي منصور الماتريدي ويعرف أحكام
مذهب أحد الأئمة الأربعة؟ ومن أين يعرفه وأنت لا تكاد ترى لهم معلمًا، ولا منهم
متعلمًا لا سيما النساء الذين هم نصف الأمة، أكثرهن لا يعرفن من العقائد إلا أن
الله تعالى واحد، وأنه في السماء، وأن النبي صعد إليه ورآه، وأن العَدويَّ يرد
الأطفال التائهين، إذا دُعِي واستغيث به، وأن أبا السعود الجارحي يشفي الأمراض
المعضلة التي تعجز عنها الأطباء، وأن السيدة نفيسة تشفي الرمد، وأن مغطس
الطشطوشي يشفي من الحميات، وأن المتبولي ينتقم بسرعة من عدو من يستغيث
به إلى غير ذلك مما تعرفه، وأما الأعمال فأكثرهن يصمن حتى في زمن الحيض،
وإذا وجد فيهن مصلية فإنما تحاكي بصلاتها صلاة أمها، وقد رأيت بعيني
وأخبرتني والدتي وعمتي عن بعض نساء العلماء أنهن يصلين مكشوفات الصدور
والرؤوس كلها، أو بعضها، وحاسرات عن السواعد! وهذا لا يصح في مذهب من
المذاهب.
إن العامة خلو من المذاهب ومن أسهل الأمور تلقينهم دين الحنيفية الذي ظهر
على كماله في الأمة الأمية، ولا يوجد مقلد للمذاهب الأربعة إلا المشتغلون بالعلم،
وقد أتعبوا أنفسهم وجعلوا الدين متعسرًا على العامة فتركوه، وعلى الحكام فأخذوا
بالقوانين، والذنب عليهم في الجميع.
المقلد: طال المجلس، وستبين لنا رأيك في المعاملات في المجلس الآتي إن
شاء الله تعالى، وانصرفوا.
((يتبع بمقال تالٍ))