للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


شبهات المسيحيين على الإسلام
وشبهات التاريخ على اليهودية والنصرانية

كتبنا نبذة معنونة بهذا العنوان في الجزء الخامس ذكرنا في فاتحتها أننا طلاب
مودة والتئام، لا عوامل نزاع وخصام، وأننا لا نود أن يطعن أحد من المسلمين
والنصارى في دين الآخر؛ لأن إظهار كل فريق محاسن دينه كافية في الدعوة إليه
من غير حاجة إلى الطعن، فقد قام الإسلام بهذه الآداب ونما نموًّا وانتشر انتشارًا
سريعًا لم يُعرف له نظير في التاريخ، وذكرنا أيضًا أن إخواننا المسلمين إذا وافقونا
على استعذاب هذا المشرب؛ فإن المسيحيين لا يوافقوننا عليه؛ لأنهم يؤلفون الكتب
والرسائل، وينشرون الجرائد للطعن في ديننا ويرسلونها إلينا للرد عليها.
وقد ألَّف بعض أدبائهم وعلماء دينهم (نقولا أفندي غبريل) كتابًا جديدًا في
الدعوة إلى النصرانية والطعن في الإسلام يتميز على الكتب الأخرى بالنزاهة والخلو
من الألفاظ التي تدعى شتمًا، وقد أهدانا هذا الكتاب لنتكلم عنه في المنار، ثم لقينا
وطالبنا بأن نكتب رأينا فيه وإن كان إبطالاً لدعاويه، ولقينا أيضًا بعض المبشرين
رفقاء المؤلف، وألح علينا بالكتابة إلحاحًا، وأكد القول بوجوبها تأكيدًا.
لا جرم أن المجادلة هي وظيفة هؤلاء التي يعيشون بها، فالبائع يطلب مشتريًا،
والمجادل يطلب مجادلاً؛ ولكن طلب الرد على الكتاب لم يقتصر على هؤلاء حتى قام
يطلبه منا بعض أصحاب الجرائد من المسيحيين كرصيفنا الفاضل صاحب السعادة
سليم باشا الحموي طلب ذلك منا قولاً وكتابة في جريدة الفلاح الغراء، ولا شك أننا إذا
كلنا لهؤلاء المؤلفين الصاع بالصاع بأن تجاوزنا حدود المدافعة إلى المهاجمة، يرون
شبرنا ذراعًا وذراعنا باعًا؛ فإنه إذا لم يثبت دين الفطرة لا يمكن أن يثبت دين، ولولا
أن الإسلام محجوب عن الأنظار بالمسلمين لأخذ به جميع عقلاء الأوربيين.
يتبين ذلك لمن نظر في الأديان الثلاثة من كتبها المقدسة، مع معرفة تواريخ
الذين جاءوا بتلك الكتب وسيرهم، وقد جرت لنا في هذا الموضوع محادثة مع أحد
علماء التاريخ المسيحيين الجغرافيين الذين لا يتعصبون في الحقيقة لدين، وكان
موضوع الكلام (من هو أعظم رجال التاريخ) وفرضنا أنفسنا غير معتقدين بدين،
فذكرت محمدًا وذكر موسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام متفقين على أنهم أعاظم
الرجال، مختلفين في أعظمهم وأفضلهم بحسب حاله وأثره التاريخي.
فقلت إن موسى تربى في بيت أعظم ملك في العالم لذلك العهد على أنه ابنه،
فنشأ في مهد المُلك والسلطان، وأُشرب حب السيادة والحكم، وشاهد سير المدنية
والعلوم الكونية والسحرية، وأبصر فنون الصنائع، وتقلب في ظل القوانين
والشرائع، وأظهرت عزة المُلك ما اقتضاه مزاجه من الشجاعة والإقدام، ثم لما بلغ
أشده وصار لفرعون وآله عدوًّا وحزنًا علم أن له أمة مضطهدة مهانة على ما منحته
من ذكاء الفطرة والجد في العمل وكثرة النسل، فاتخذهم عصبية له، وحاول
تأسيس مُلك نزعت إليه نفسه لما أعطته التربية الملوكية، وظاهر فرعون وجالده
أولاً بالقوة التي كان يُستولى بها على النفوس، ويُستعبد بسلطانها الشعوب، وهي
قوة الأعمال الغريبة التي نشأ في حجرها، ثم خرج عليه بقوة العصبية كما عهد من
كثيرين في ممالك متعددة، وقد أعطانا التاريخ أن من الخارجين من يؤسس إمارة أو
مملكة في داخل المملكة التي يخرج على سلطانها، وموسى قد خرج من مصر
هاربًا بقومه من فرعون، أما عبور البحر وهي الغريبة التي لا يمكن أن تكون حيلة
ولا شعوذة ولا سحرًا ولا صناعة، فقد بيَّن بعض المؤرخين أن بني إسرائيل عبروا
البحر في نهاية الجَزْر من مكان قليل العمق، ولما عبر فرعون بالمصريين كانت
ثوائب المد قد أخذت بالزيادة والفيضان فغرقوا فيها، وقد جرى مثل هذا لنابليون
بونابرت فإنه عبر بعسكره البحر الأحمر في وقت الجزر إلى الشاطئ الثاني، ولمَّا
أراد الرجوع إلى شاطئ مصر كان المد قد ابتدأ، ولولا أنه أمر العسكر بأن يمسك
بعضهم ببعض حتى تغلب قوة المجموع قوة المد لغرقوا أجمعين، وما عدا هذا من
غرائب موسى ففي نقله إشكالات، وفي فهمه شبهات، وفي دلالته على نبوته
وكونه يتكلم عن الله تعالى نظر، فإذا اقتنع به بعض من مضى لا يمكن أن يقتنع به
من حضر، والشريعة التي جاء بها يشهد التاريخ بأن أكثرها موافق لشرائع
المصريين، وما بقي منها فلا يكثر على من تربى مثل تربيته، وأُعطي مثل ذكاء
قريحته.
وأما عيسى فهو رجل يهودي تربى على الشريعة الموسوية، وحكم بالقوانين
الرومانية، واطلع على الفلسفة اليونانية، فعرف مدنية ثلاث أمم كانوا أعظم أمم
الأرض مدنية، وأوسعها علمًا وحكمًا ولم يحمله شيء من ذلك على أن يشرع
شريعة جديدة، ولا أن ينشئ أمة، وإنما كان خطيبًا فصيحًا، وعلق بذهنه شيء
من إفراط بعض فلاسفة اليونان في الزهادة وترك الدنيا بالمرة، وإذلال النفس لأجل
نجاة الروح والدخول في ملكوت السماء، فطفق يخطب بذلك وتبعه بعض الفقراء
الذين وجدوا لهم بكلامه تعزية وسلوى، وطفقوا ينقلون عنه بعض الغرائب كما هو
المعهود من عامة الناس، وأن ما ينقل عنه من ذلك لا يبلغ عشر معشار ما ينقل
عن أحد أولياء المسلمين كالجيلي والبدوي، وأما كونه ولد من غير أب فهي دعوى
لا يمكن إثباتها إلا بثبوت دين الإسلام بالبرهان العقلي، لا بالغرائب وليس ذلك من
موضوعنا الآن، فالمؤرخ إذا أحسن الظن يقول: إن عيسى هو ابن يوسف النجار
زوج مريم، وهذه الزوجية لا ينكرها النصارى. فموسى كان له أثر عظيم؛ ولكن
عيسى لا يعرف له التاريخ أثر يذكر لا في العلم والإصلاح، ولا في المدنية، بل
إن تعاليمه ومواعظه تؤدي إلى فساد المدنية وخراب العمران والهبوط بالنوع
الإنساني من أُفُقه الأعلى إلى حضيض الحيوانية السفلى، لما فيها من تربية النفوس
على الذل والمهانة، والرضا بالخسف والهضيمة، والأمر بترك عمران الدنيا
وترقيتها لاعتقاد أن الجمل يدخل في سم الخياط ولا يدخل الغني ملكوت السموات،
ثم هي من جهة ثانية تعاليم إباحة؛ لأنها تُعَلِّم أن الذي يؤمن بصلب المسيسح لأجل
خلاصه هو الذي يختص بملكوت السماء، وتمحى جميع خطاياه، ومن اعتقد ذلك
يستبيح كل محظور ويتبع هواه، ومن جهة ثالثة نرى هذه التعاليم وثنية؛ لأنها
تأمر بعبادة البشر، وتطفئ نور العقل؛ لأنها تكلفه بأن يعتقد بثبوت ما يجزم بأنه
محال ككون الثلاثة واحدًا، والواحد ثلاثة، وتذهب باستقلال الفكر والإرادة إذ
تجعلها مقيدة بسلطة الرؤساء بمقتضى قاعدة أن ما يحلونه في الأرض يكون محلولاً
في السماء، وما يعقدونه في الأرض يكون معقودًا في السماء.
وأما زعم أن المدنية الأوربية مدنية مسيحية، فهو زعم منقوض بالبداهة؛
لأن هذه المدنية مادية مبنية على حب المال والسلطة والتغلب والعزة والكبرياء
والعظمة والتمتع بالشهوات، والتعاليم المسيحية تناقض هذا كله بإفراط بعيد، وما
وصل الأوربيون إلى ما وصلوا إليه إلا بعد ما نبذوا التعاليم المسيحية ظهريًّا، ولو
أن هذه المدنية من أثر التعليم المسيحي لنشأت عنه بقرب نشأته؛ ولكنها لم تظهر
إلا بعد بضع قرون من ظهوره، والنتيجة أن التاريخ لا يعرف للمسيح أثرًا في
الكون يجعله في رتبة الشارعين والمصلحين في الأمم.
وأما محمد عليه الصلاة والسلام فقد تربى يتيمًا في أمة وثنية أمية جاهلية،
ليس لها شرائع ولا قوانين ولا مدنية ولا وحدة قومية ولا معارف ولا صنائع،
وكان أعظم ارتقاء بلغته في عهده أن وجد بضعة نفر تعلموا الكتابة بسبب اختلاطهم
بالأمم الأخرى، ولم يكن هو منهم ولا السابقون إلى الإيمان به، ومع هذا أوجد أمة
ودينًا وشريعة وملكًا ومدنية في مدة قريبة لم يعهد مثلها في التاريخ.
علَّم الناس أن يبنوا عقائدهم على قواعد البراهين العقلية، وأن تكون آدابهم
وأخلاقهم على صراط الاعتدال، وأن يقوموا بحقوق الروح والجسد، وأن يراعوا
سنن الله في الخلق والأمم، وبيَّن لهم العبادات بآثارها في تزكية الروح وتطهيرها
ككون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر لما اشتُرط فيها من الخشوع ... إلخ،
وأباح لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث، وجعل المعاملات الدنيوية دائرة على درء
المصالح وجلب المنافع، وأطلق لهم حرية العقل والفكر، وساوى بينهم في الحقوق
لا فرق بين الملك الكبير والصعلوك الفقير ولا بين الرجل والمرأة، وأعطى المرأة
حرية التصرف في أملاكها، ووضع حدودًا عادلة لتحكم الرجال في النساء، وللرق،
ونقَّح نظام الحروب فمنع البغي والتمثيل بالقتلى وقتل من لا يقاتل كالنساء والشيوخ
والأطفال ورجال الدين ... إلخ ما ذكرته لذلك المؤرخ المحقق، وسأفصل القول فيه
في دروس التوحيد الآتية إن شاء الله.
وقد أذعن لي ذلك الفاضل بأن محمدًا عليه أفضل الصلاة والسلام أعظم رجال
التاريخ، إلا أنه احتج عليّ بسوء حال المسلمين، وكونهم على خلاف ما ذكرت في
وصف الدين الإسلامي، فقلت له: إن بين الإسلام والمسلمين فرقًا كالفرق بين
المسيحية والمسيحيين أو أبعد، وحسبك أن المدنية الإسلامية ما وجدت إلا بالدين
الإسلامي - راجع مقالات مدنية العرب في مجلد المنار الثالث - وكانت تتقلص
عنهم كلما ابتدعوا في الدين، وانحرفوا عن صراطه حتى وصلوا إلى ما هم فيه
الآن، وأما المدنية الأوربية التي يسميها بعض الناس مسيحية فلم توجد إلا بعد ما
اتصل أهل أوربا بالمسلمين، وأخذوا كتبهم وترجموها وهم يزدادون ارتقاء في
مدنيتهم كلما ازدادوا بعدًا عن المسيحية، فقال: هذا مبالغة في الجانبين. وانفض
المجلس.
بقي أن ما تقدم من الشبه على نبوة سيدنا موسى وسيدنا عيسى عليهما الصلاة
والسلام يتناول أيضًا نبوة سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، لا لأنه يرد على
دينه مثلما يرد على المعروف من دينهما، بل لأنه شهد لهما بالنبوة والهداية الإلهية
وقد ذكرنا الجواب عن ذلك في نبذة (شبهات المسيحيين على الإسلام) التي
نُشرت في الجزء الخامس من هذه السنة، ولو أنصف رجال الدين من اليهود
والنصارى لتمسكوا بذلك الجواب واتفقوا عليه؛ لأنه لا يدفع عنهم اعتراضات
علماء التاريخ والآثار العادية والجيولوجيا والتاريخ الطبيعي والفلسفة وعلم الاجتماع
وعلم النفس إلا هو، وأما الجواب عن آية انفلاق البحر لسيدنا موسى فهو أن ما
ذكره بعض المؤرخين من حديث المد والجزر فهو احتمال يرجح عليه أخبار الوحي
الثابت بالبرهان الحقيقي الذي بيَّناه في درس التوحيد قبل هذه المقالة، وكذلك يقال
في سائر الآيات وما يرد عليها من الشبهات، وسنجيب عما ذكرناه من اعتراض
التاريخ على التعاليم المنسوبة إلى المسيح.
وحاصل ما نقوله الآن: إن إثبات الدين إما أن يكون بنقل الآيات الكونية
الخارقة للعادات المعروفة للناس، وفيه النظر الذي تقدم في درس التوحيد، وهو
أيضًا مشترك بين الجميع؛ لأن كل أمة تنقل عن شارعها مثل ذلك، فما يقال في نقل
هؤلاء يقال في نقل الآخرين، على أن نقل المسلمين أقرب إلى الصحة من نقل
غيرهم لوجوه كثيرة، منها أن العلم والتأليف والرواية اللسانية معروفة فيهم من
القرن الأول إلى الآن، ومنها أنه لم يغلب عليهم عدو حرَّق كتبهم وطمس معالم
الثقة بدينهم وتاريخهم، ومنها أنهم لم يُضطهدوا ويضطروا لكتم دينهم، فيقال إن
التلاعب حصل في إبان الكتمان، ومنها أنهم هم الذين اخترعوا وضع التاريخ
للرجال لأجل معرفة صحة الرواية من عدمها، ولم يكن لليهود ولا للنصارى مثل
هذه المزايا، وإما أن يكون بالآيات النفسية والعلمية وهذا لا يظهر في نبي كظهوره
بالنسبة إلى نبينا صلى الله عليه وسلم كما بيناه في درس التوحيد المنشور في هذا
الجزء، وسنزيده بيانًا فيما سيأتي كما وعدنا، وحينئذ يكون البرهان الصحيح في
هذا الوقت على نبوة موسى وعيسى عليهما السلام شهادة نبينا لهما، وإن كان الله
تعالى أعطاهما في زمنيهما آيات تناسب حال الأمم فيهما، ولا يمكن أن تثبت الآن
بنفسها، ولذلك نرى كل من يتعلم ويعقل من المنتسبين إليهما ينبذها ظهريًّا،
ويحسبها شيئًا فريًّا، ولو عرف الإسلام حق المعرفة لقبله وقبلها على وجه معقول.
إذن: إن أفضل خدمة للدين المطلق أن يُعرف الإسلام حق المعرفة؛ لتعرف
اليهودية والنصرانية أيضًا على الوجه المقبول، وذلك بالتوفيق بين التوراة
والإنجيل والقرآن، كما وفقنا في الجزء الخامس لا بالاستدلال بالقرآن على صدق
التوراة والإنجيل، ثم الاستدلال بما يسمونه توراة من تلك الكتب الكثيرة التي أُلِّف
أكثرها بعد صاحب التوراة وبالكتب والرسائل الكثيرة التي يسمون مجموعها إنجيلاً
على تكذيب القرآن؛ لأن هذا الصنيع يعود على الموضوع بالنقض فيبطل الدليل
نفسه، وأقل ما يقال فيه (تعارَضا تساقَطا) وتكون النتيجة إبطال الجميع، أي أن
القرآن هو الدليل على صحة التوراة والإنجيل، والقرآن ليس من الله - بزعمهم -
فشهادته غير حق، ودلالته غير صحيحة، وسنعود إلى الكلام على كتاب (أبحاث
المجتهدين) وعلى جريدة بشائر السلام بما يؤلف بين الأديان، ويدعو إلى إزالة
الأضغان.
((يتبع بمقال تالٍ))