للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: ع. ز


لائحة الفقه الإسلامي [*]
لحضرة العالم الفاضل صاحب التوقيع

برح الخفاء وآن للحقائق أن يتبلج نورها، فقد مزَّقت عزائمُ المصلحين حجبَ
الأوهام، وأزالت غشاوة الأبصار، وللأطوار أدوار، وللأدوار أسرار، فسبحان
الظاهر الباطن.
إن لم يكن في كلماتي هذه براعة استهلال لمقصدي وفاتني منها النصيب
الذي يحرص عليه كتابنا القدماء ومقلدوهم في محامد خطبهم؛ فإن فيها من قوة
العزم في المقصد الإجمالي ما يعرب عنه بأجمع عبارة وأجمل إشارة.
كلامي الآن في الفقه الإسلامي حملني عليه سبب شريف ذلك أنني كتبت إلى
صديق لي فاضل مشرف على مطالع أنوار المعارف مكتوبًا مطولاً، عرضت له
فيه خلاصة نبذة من أفكاري بأننا إخوان سعي في سبيل إصلاح يهتم له الشاعرون
بالأحوال، وينكره الواقفون الذين تتجاذبهم الأهواء، ويتجاذبون الأدواء،
والمكتوب جاء فيه إنكار لكثير من العلوم التي يعتبرها المسلمون من العلوم النافعة
لهم في دينهم ودنياهم، وأعتبرها أنا بالعكس بما قام عندي من البرهان فأختار أن
يحاورني في قسم من أقسام المكتوب، فكتب إليّ جوابًا أفاض فيه من معارفه
الغزيرة ما تروى به الصدور، ونشر المنار الزاهر هذا الجواب لما احتوى من
حقائق العلم، وآيات الإشراف والإشراق، وإذ كان لي من الكلام في هذا الموضوع
ما لم يسعه مكتوبي الأول، ومن الجواب على رده ما يزيد المسألة وضوحًا أحببت
أن أكتب هذه الرسالة لصديقي نفع الله الأمة بفضله وعلو همته، على أن يكتفي إن
شاء بمطالعتها أو ينشرها في المنار - أدام الله إشراقه - إن شاء صاحبه العلامة.
كلامي في الفقه الإسلامي
الفقه الإسلامي يشتمل على قسمي العبادات والمعاملات كما يقولون، أما
العبادات فليس يخفى على أحد أنها أعمال خاصة أُمرنا أن نفعلها كما كان يفعلها
النبي وأصحابه الذين تعلموا منه، فهل التعاليم مختلفة بقدر ما اختلف هؤلاء الفقهاء
أم أراد هؤلاء أن يوهموا الملأ بما وسعته صدورهم من العلوم فتوسعوا
بالتفصيلات القولية والاصطلاحات المذهبية حتى كتبوا ألوفًا من الأوراق على
الصلاة مثلاً، ولئن سألتهم ليقولن إنها عماد الدين، وأن الاهتمام بتحرير علومها
ضروري، قل إن القرآن المجيد الذي فرضها لم يجئ فيه بشأنها أكثر من قوله:
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} (البقرة: ٤٣) {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (البقرة: ٤٣)
{وَاسْجُدُوا لِلَّهِ} (فصلت: ٣٧) ولم يجئ فيه بشأن الطهارة التي هي من
أجلها أكثر من الأمر بغسل الوجه واليدين والرجلين ومسح الرأس إذا أخرج الإنسان
فضلاته، وبالتيمم إذا لم يجد الماء وبالتطهر من الجنابة، وأن النبي صلى الله عليه
وسلم كان يُعَلِّم الصلاة للواحد من أصحابه في ساعة واحدة؛ لأنها أعمال محدودة
كالوقوف إلى جهة معينة، وقراءة كلمات سهلة وحني الظهر ووضع الجبهة على
الأرض! أعمال يتعلمها الصبي في ساعة، ويا عجبي للذين اختلفوا واستشهد كل
منهم بالأقوال، ألم يروا أنها حركات بدنية واستحضارات قلبية، شوهدت من النبي
صلى الله عليه وسلم يفعلها خمس مرات كل يوم نحو عشرين عامًا، ثم شاهدها من
أصحابه من لم يشاهدها منه وهلم جرا، ألم يكن في مشاهدة الفعل يتكرر آلافًا من
المرات غنية عن الأقوال؟ أم أراد بهم ربك اختلافًا فلم يزد الناس بيانهم إلا
إغماضًا وإعضالاً، اتلُ من أمثلة اختلافاتهم هذا المثال:
(في فتح القدير (١) ص (١٥٤) وأول وقت المغرب إذا غربت الشمس
وآخر وقتها ما لم يغب الشفق وقال الشافعي رحمه الله: مقدار ما يصلي فيه ثلاث
ركعات لأن جبريل عليه السلام أمَّ في اليومين في وقت واحد، ولنا قوله عليه السلام:
(أول وقت المغرب حين تغرب الشمس وآخر وقتها حين يغيب الشفق) وما رواه كان
للتحرز عن الكراهة، ثم الشفق هو البياض الذي في الأفق بعد الحمرة عند أبي حنيفة
رحمه الله وقالا هو الحمرة، وهو رواية عن أبي حنيفة وهو قول الشافعي رحمه الله
لقوله عليه السلام: (الشفق الحمرة) ولأبي حنيفة قوله عليه السلام: (وآخر وقت
المغرب إذا اسود الأفق) وما رواه موقوفًا على ابن عمر رضي الله عنهما ذكره مالك
رحمه الله في الموطأ، وفيه اختلاف الصحابة اهـ) .
تراهم اختلفوا في تعيين الشفق، ورووا عن أبي حنيفة روايتين متباينتين
وأنت خبير أن هذا التفريق بين البياض والحمرة دقيق جدًّا إذا كان الجو صافيًا ولا
يمكن ألبتة إذا كان داجنًا، ثم ماذا جوابهم إذا سألهم أهل أرض تحجب فيها الغيوم
الشمس أكثر من نصف السنة عن أول وقت المغرب الذي عينوه بغروبها، وعن
آخره الذي عينوه بذلك البياض وتلك الحمرة، أفيقولون يقدر الوقت تقديرًا؟ فكيف
يقدر الوقت وبماذا؟ أبعدد الركعات كما قال الشافعي فكم معدل الركعات في النهار
والليلة، حتى نقدِّر أجزاءهما بعدد الركعات، ومن ذلك الذي يعمل هذا المعدل؟
وإليكم هذا أيضًا: يقولون في باب الصوم:
(لا عبرة باختلاف المطالع فيلزم أهل المشرق برؤية أهل المغرب وعليه
الفتوى) انظر معي في هذا القول الذي اتفقوا عليه وأفتوا به إلا أصحاب الشافعي،
فاسأل الذين يقرءونه فيعتبرونه دينًا: من ذلكم الذي يوصل خبر المغرب إلى
المشرق في أقل من ليلة حتى يلزمهم الصوم بيوم واحد؟ ثم كيف يصوم أهل
المغرب مثلاً برؤية أهل المشرق وبينهما اختلاف عظيم، فقد يكون ليل ناس نهار
آخرين؟
سامحني أيها الصديق بما تصديت له من حال أقوالهم في قسم العبادات فقد
دعت إلى هذه الإشارة ضرورة الكلام على كل ما سموه فقهًا، وسامحني أيضًا أن
أذكر شيئًا عما كتبوه في المناكحات التي عدوها في المعاملات، تلك المناكحات التي
يتعجب الإنسان من الأبواب التي فُتحت فيها، كحلف الإنسان بأنه يحرِّم فرج
امرأته على فرجه إذا كان الأمر كذا مما لا علاقة للزوجة به، وكإفتائهم وقضائهم
بأن هذا الفرج المحلوف عليه يُحرَّم إذا حنث الحالف، وإن لم يكن ثمة إرادة الفراق
وإليكم من عباراتهم في هذا الباب شيئًا من أشياء:
(لو قال لها: أنت طالق ثلاثة أنصاف تطليقتين فهي طالق ثلاثًا؛ لأن
نصف التطليقتين تطليقة، فإذا جمع بين ثلاثة أنصاف تكون ثلاث تطليقات
ضرورة، ولو قال أنت طالق ثلاثة أنصاف تطليقة، قيل يقع تطليقتان؛ لأنها طلقة
ونصف فيتكامل، وقيل يقع ثلاث تطليقات؛ لأن كل نصف يتكامل في نفسه
فتصير ثلاثًا)
هذا وأما ما كتبوه في الحقوق، وسموا مجموعه بالمعاملات فلا أنكر أنهم
أجادوا في بعضه بحسب أزمنتهم وأمكنتهم؛ وإنما الذي أنكره هو: (١) أنه يكفي
لزماننا ويغنينا عن غيره (٢) وأنهم استفادوا كل ما كتبوه من الدين، ولا دخل
لعقولهم فيه (٣) وأنه لا يغني عن غيره (٤) وأنه لم يكن آلة بيد القضاة
والمفتين ومن في حكمهم يعبثون فيه كما شاءوا (٥) وأنه ليس من المضر تقديسه
الذي جعلنا ينابذ بعضنا بعضًا من أجله، وتقديس المحاكم المنسوبة إليه التي كانت
ولا تزال بقاياها ميدانًا تتجلى فيه الغرائب.
هذا كله هو الذي أنكره إنكارًا مقرونًا بالدليل القاطع لمن شاء أن أذكره،
وليس بخافٍ (١) أن أزمنتهم غير زماننا الذي تغيرت فيه التجارة وأبوابها
وفروعها تغيرًا مهمًا (٢) وأن الرسول صلى الله عليه وسلم بتصريحه لمعاذ بن
جبل وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما أن يعملا برأيهما إذا لم يجدا نصًّا - كفانا
مؤنة السلاسل التي ربط الناس بها أقوام كتبوا الكتب بأيديهم، ثم قالوا هذه من عند
الله (٣) وأن هذه الأمم التي ليس عندها هذه الكتب قد أغناها الله بفضل عقولها في
تدبير التجارة والبيوع وعقد الشركات وإمضاء المعاهدات وإدارة المنافع العامة
وترتيب العقوبات وجباية الأموال وتنظيم الجيوش وإعداد ما يحفظ المجد ويعلي
الشأن في السلم والحروب (٤) وأن هذه الأقوال المتضاربة المتعارضة ليس
لأكثرها من سبب إلا منافع القضاة ومن في حكمهم (٥) وأن اعتناء كل طائفة
بمذهب واحد على ما فيه من تعدد المرجحين قد فرَّق كلمة المسلمين منذ زمن بعيد
حتى أوصلهم إلى هذه الحالة - وهل منكر لها؟ - بمقتضى السنة الإلهية. هذا ما
قلت زبدته وأعدته اليوم مع شيء من التفصيل، وأن الأخ حفظه الله ليعلم أن هذا
الموضوع لا يوفيه حقه من البيان إلا مئات من الأوراق وفي ذكائه وإمعانه وإمعان
الأذكياء غنية وكفاية.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ع. ز
(المنار)
للمقالة بقية، ومَن عنده جواب من الفقهاء فليرسله إلينا لننشره بعد إتمامها.
((يتبع بمقال تالٍ))