للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مقدمة ديوان حافظ
أو الشعر وفنونه وتأثيره وفحوله

يعرف قراء المنار مكانة محمد حافظ أفندي إبراهيم في الشعر، وأنه يضرب
مع فحوله بكل سهم، ويسابق جياده في كل فج، ويمتاز على السابقين الأولين
بالمعاني التي جلتها الحضارة والمدنية، ويتقدم صفوف المتأخرين بالجزالة البدوية
ويودون لو تُخدم اللغة والآداب بطبع ديوانه، ونحن نبشرهم بأن الديوان كاد يتم
طبعه، ونتحفهم بمقدمته التي تشهد له بأنه ممن اتفقت لهم الإجادة في المنظوم
والمنثور، وهي - كما قال ابن خلدون - لا تتفق إلا للأقل، قال حافظ وأحسن ما
شاء هو وشاء الإحسان:
الشعر - وهو أحد توأمي اللغة العربية - علم وجد مع الشمس، لا تعرف الإنس
له واضعًا، قد كمن في نفوس البشر كمون الكهرباء في الأجسام، فلا يهتدي إلى
مكمنه الخاطر، ولا يعثر به الخيال إلا إذا أثارته حركة النفس، وهو من الكلام
بمنزلة الروح من الجسد، فلا بدع إذا عجز لسان الكون عن تعريف كنهه عجزه
عن إدراك كنه الروح.
ولقد عرَّفه بعضهم فقال: إنه نفثة روحانية تمتزج بأجزاء النفوس، ولا تحس
به منها غير النفوس الزكية. وقال آخر: إنه قول يصل إلى القلب بلا أذن.
ولم أعثر حتى اليوم على تعريف له شافٍ في كتب العرب والإفرنج، ومبلغ
القول فيه أنه ظرف الحكمة ومسرح الخيال ومغنى البلاغة وخدر الفصاحة ووعاء
الحقيقة، فلو أنهم سألوا الحقيقة أن تختار لها مكانًا تشرف منه على الكون لما
اختارت غير بيت من الشعر [١] ، ولو لم تكن آيات الكتاب العزيز كلها ظروفًا
وأوعية للحقيقة لما وجد الملحدون السبيل إلى القول بأنه جاء على طريقة الشعر
وإن كان منثورًا.
وخير الشعر ما سبق دبيبه في النفس دبيب الغناء، ثم سبح بها في عالم
الخيال، فإن كان غزلاً مر بها على مسارح الظباء وكنس الآرام، وطاف بها على
أودية العشق والغرام، فأراها أسراب الأرواح ترفرف على نواحيها غاديات
رائحات في مروج الهوى، سائحات سارحات في رياض المنى، طائرات سابحات
في أجواء الهيام، حافات بأرواح أولئك الذين قضوا صرعى العيون، وشهداء
الجفون، وأراها جميلاً وهو يرنو إلى بثينته، والمجنون وهو يضرع ليلاه، ثم
ردها بعد ذلك وقد أذابها رقة وأسالها شوقًا، وإن كان حماسًا طار بها إلى مكامن
البلاء، ومساقط القضاء، يشق بها صفوف الحوادث، وكتائب الكوارث، حتى إذا
راضها على مصافحة الحمام، ومكافحة الأيام، انتقل بها إلى المعامع، فحبب إليها
لثم البتار، ومعانقة الخطَّار، وأراها عبد بني عبس وهو يسابق المنية إلى اختطاف
الأرواح وينادي:
لي النفوس وللطير اللحوم وللـ ... ـوحش العظام وللخيالة السَّلَب
ثم ردها بعد ذلك، وهي تنظر إلى فرند القصاب، نظر المحب إلى لمي
الرُّضاب.
وإن كان فخرًا سما بها إلى عرش الجلال فأراها الشريف متربعًا في ناديه
يطالع في صحيفة أنسابه، وجريدة أحسابه، وهو يشتَمُّ من لحيته ريح الخلافة
ويخاطب بها صاحبها بقوله:
مهلاً أمير المؤمنين فإننا ... في دوحة العلياء لا نتفرق
ما بيننا يوم الفخار تفاوت ... أبدًا كلانا في المفاخر معرق
إلا الخلافة ميزتك فإنني ... أنا عاطل منها وأنت مطوق
وإن كان حكمة خرج بها عن ذلك العالم المجبول بالأذى، وآسى عندها بين
الوجود والعدم فروَّح عنها وهون عليها، ثم سرى بها من بيت العظة والاعتبار
وأراها شيخ المعرة وأبو الطيب بجانبه، يستصبح كل منهما بنوره صاحبه،
وأسمعها الأول وهو يقول:
ويدلني أن الممات فضيلة ... كون الطريق إليه غير ميسر
والثاني وهو ينشد:
ألف هذا الهواء أوقع في الأنـ ... ـفس إن الحِمام مر المذاق
والأسى قبل فرقة الروح عجز ... والأسى لا يكون بعد الفراق
ثم ردها وهي تنظر إلى هذا الدهر وأبنائه نظر الممعود إلى غذائه.
وإن كان زاهدًا طرح عن منكبيها رداء الطمع، واستل من جنبيها خيوط
الجشع، وأراها الشيخ أبا العتاهية مضطجعًا في بيته، يتغنى ببيته:
الناس في غفلاتهم ... ورحى المنية تطحن
ثم غادرها وهي تكتفي من دنياها بإحراز مسكة الحوباء، وتجتزئ منها بشربة
من الماء.
وإن كان مادحًا مثَّل لها الممدوح يسحب مطارف الحمد، ويجرَّ ذيول الثناء،
وقد كساه مادحه حلة لا تبلى وأحلّه المحلّ الذي لا ترقى إليه همة الزمان، وأراها
صاحب مسلم بن الوليد الذي يقول فيه:
موحِّد الرأي تنشق الظنون له ... عن كل ملتبس فيها ومعقود
يلقى المنية في أمثال عدتها ... كالسيل يقذف جلمودًا بجلمود
وقد شفَّت له الآراء عن مواطن الصواب، وانشقَّت له حجب الظنون عن
مكامن الغيب ومثله لها في البيت الأول، وهو يسري ورأيه يضيء إضاءة الكهرباء
وفي البيت الثاني وهو يدفع الموت بالموت، ويدرأ الحتوف بالحتوف إذا شمر له
الموت عن ساعديه شمر، وإذا تنمر له الحِمام تنمر.
وإن كان استعطافًا مثّل لها النفس الموتورة، وهو يحلل من حقدها، ويقلم من
أظفار ضِغنها، وقد مال بها إلى جانب العفو والتجاوز، وأراها سيف الدولة في
ديوان إمرته، وأبو الطيب جالس بحضرته، ينشده قوله:
ترفق أيها المولى عليهم ... فإن الرفق بالجاني عتاب
ولم تجهل أياديك البوادي ... ولكن ربما خفي الصواب
وقد سكت عنه الغضب، وهبَّت من شمائله نسائم الرفق، وجال في محياه
ماء الصفح.
وإن كان وصفًا جسَّم لها الشيء الموصوف، حتى إنها لتكاد تهمُّ بلمسه،
وأثبت لها أن الشعر تصوير ناطق وأراها ذلك السيف الذي يقول فيه أبو الطيب:
سلَّه الركض بعد وهن بنجد ... فتصدى للغيث أهل الحجاز
وهو يخطف البصر قبل اختطاف الهمام، ويلمع لمعان شقة البرق طارت في
الغمام، أو ذلك السيف الذي يقول فيه ابن دريد:
يُري المنايا حين تقفو إثره ... في ظلم الأحشاء سبلاً لا تُرى
وهو كأنه سراج يضيء لعزريل فيهتدي به إلى مكامن الأرواح.
وإن كان تشبيهًا جلَّى لها وجه الشبه في مرآة الخيال، فأشكل عليها الأمر،
ولم تدر أيهما المشبه بالآخر، وأراها بزاة ابن المعتز التي يقول فيها:
وفتيان سروا والليل داج ... وضوء الصبح متهم الطلوع
كأن بزاتهم أمراء جيش ... على أكتافهم صدأ الدروع
وهي كأنها أولئك الأمراء، وأولئك الأمراء وهم كأنهم تلك البزاة.
ذلكم تأثير الشعر السري في النفوس، ولقد بلغ من تأثيره أن بيتًا منه أذكى
نار الحروب بين العرب والفرس، وهو قول ليلى بنت لكيز من قصيدة:
غَلَّلُوني قيَّدُوني ضربوا ... ملمس العفة مني بالعصا
وإن بيتين منه أتيا على أمة بأسرها وهما قوله:
لا يغرنك ما ترى من أناس ... إن تحت الضلوع داء دويّا
فضع السيف وارفع الصوت ... حتى لا ترى فوق ظهرها أمويّا
وقد ترجل لبيت منه جيش بالأندلس وهو قول ابن هانئ:
من منكم الملك المطاع كأنه ... تحت السوابغ تُبَّع في حِمْير
وبرز أحد ملوك الأندلس من خلف الستار حين سمع قول مادحه:
انظرونا نقتبس من نوركم ... إنه من نور رب العالمين
البقية تأتي
((يتبع بمقال تالٍ))