للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


عفة نساء العرب وبلاغتهن

ذكَّرني بيت ليلى بنت لكيز الذي أورده محمد حافظ أفندي في مقدمة ديوانه أن
أُطرف القراء بخبر عفة هذه الفتاة، وقوة عزيمتها، وبلاغة قولها، وسحر بيانها،
وطالما كنت أحدِّث الإخوان بأن أبلغ بيت قالته العرب هو قول هذه الفتاة (غَلَّلُوني)
البيت، على أن البلاغة هي كما قال أستاذنا مفتي الديار المصرية هي أن يبلغ
المتكلم بكلامه ما يريد من التأثير في النفوس وإصابة موقع الوجدان منها.
ومجمل خبر الفتاة أن أباها وهو من بني وائل نزل في بعض منازل إياد
بالقرب من بلاد فارس، وكانت ليلى هذه بارعة الجمال، فتزلف بخبرها إلى ملك
الفرس رجل من تحوت إياد، على أن إيادًا كانوا مرذولين عند العرب لمجاورة
الأعاجم ومخالطتهم، فأخذها الملك من أبيها غصبًا، فبخلت عليه حتى برؤية
وجهها، فبذل لها في سبيل رؤيته ألوان المشتهيات، وروَّعها بضروب العقوبات،
فأبت عليه أن يراها، ثم خيَّرته بين أن يقتلها أو يعيدها لأبيها، فارتأى بعد ذلك أن
يفسد عفتها بالترف والنعيم، فكف عن مراودتها وأمر بأن ترفَّه وتغمر بالنعيم، وما
كان نعيم الأجنبي إلا بؤسًا عليها لعزة نفسها وأنفتها، ومن كلامها في تحريض
قومها على قتال الفرس وحماية عرضهم بإنقاذها:
ليت للبرّاق عينًا فترى ... ما أُلاقي من بلاء وعنا
يا كليبًا وعقيلاً إخوتي ... يا جنيدا أسعدوني بالبكا
عذبت أختكم يا ويلكم ... بعذاب النُّكر صبحًا ومسا
غَلَّلُوني قَيَّدوني ضربوا ... (ملمس العفة) مني بالعصا
يكذب الأعجم ما يقربني ... ومعي بعض حشاشات الحيا
قَيِّدُوني غَلِّلُوني وافعلوا ... كل ما شئتم جميعًا من بلا
فأنا كارهة بغيكم ويقين ... الموت شيء يرتجى
يا بني كهلان يا أهل العلى ... أتدلون علي الأعجما
يا إيادًا خسرت أيديكم ... خالط المنظر من برد عمى
فاصطبار وعزاء حسنًا ... كل نصر بعد ضر يرتجى
أصبحت ليلى يغلي كفها ... مثل تغليل الملوك العظما
قل لعدنان هديتم شمروا ... لبني مبغوض تشمير الوفا
واعقدوا الرايات في أقطارها ... وأشهروا البيض وسيروا إلى الضحى
يا بني تغلب سيروا وانصروا ... وذروا الغفلة عنكم والكرى
احذروا العار على أعقابكم ... وعليكم ما بقيتم في الدُّنا
وقد كان لهذا ما كان من الحروب بين العرب والفرس، وانتهى الأمر بقتل
ملك الفرس وتخليص الفتاة، فليعتبر بهذه العفة والشهامة نساؤنا، بل وشبان
المصريين المتبجحون بأنهم أبناء عصر المدنية، وما بلغوا في الفضيلة بعض ما
بلغت تلك البدوية، قد أفسدت الشهوات بأسهم فمسنوا ومجنوا وتهتكوا حتى بلغنا
عن شاب من أذكيائهم أنه قال في بَغِيّ إنكليزية إنها حببت إليه بجمالها ودلالها
الاحتلال، وتلك نهاية التلاشي والانحلال.