للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


إصلاح الطرق وأهلها

حضرنا في هذه الأيام مجلسين من مجالس أهل الجدّ والبحث في الشؤون
الاجتماعية الإسلامية والإصلاح، وكان من أهم ما أطلنا البحث فيه عدة ساعات
إصلاح طرق المتصوفة والانتفاع بها، فذهب فريق إلى أن لهذه الطرق مقامًا عليًّا
في نفوس العامة، وتأثيرًا كبيرًا إذ تولى تدبيره رجال من أهل الاستقامة والفضل
يمكنه أن يحدثوا انقلابًا عظيمًا في العالم الإسلامي، ومما استدل به على ذلك اهتمام
الأوربيين بهذه الطرق ووضع المؤلفات الطويلة فيها، واستخدام فرنسا الطريقة
التيجانية، وكونه لم يبق بين المسلمين في الأقطار البعيدة من الاتصال والارتباط
إلا هذه الطرق، وقالوا: إن أمثل طريق للإصلاح أن تؤلف جمعية من أهل الفضل
تُعِدّ الرجال المصلحين، وتسعى في جعلهم شيوخًا مسلكين.
وذهب الفريق الآخر إلى أن جميع ما ينفرد به هؤلاء الناس عن سائر
المسلمين في هذه الأزمنة فهو من البدع والخرافات، فإذا كان عمل المصلحين
إبطال هذه البدع وإرجاعهم إلى أصل الدين فذلك إبطال للطرق بالمرة، وهو
الإصلاح الحقيقي، وإن أقروهم عليها فلا إصلاح.
ومما قاله كاتب هذه السطور: إن الخلاف في إمكان إصلاح الطرق وعدمه
يرجع إلى أصلين عظيمين: أحدهما: كون الإنسان لا يعمل عملاً إلا إذا اعتقد عن
بصيرة أنه حق وحسن ونافع ليكون عاملاً بإرادته المنبعثة عن علمه، وهذا أساس
من الأسس التي قام عليها بناء الإسلام ولا يرتقي البشر إلا به. وثانيهما: الطاعة
العمياء وكون الإنسان يعمل بإرادة غيره، وهذا هو الأساس الذي بُني عليه
التصوف؛ لأنهم يشترطون أن لا تكون للمريد إرادة مع شيخه، وأن يكون معه
كالميت بين يدي الغاسل، وأذكر من دليل الأول أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم
كانوا يراجعون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في بعض القول الذي يخالف رأيهم
فيقولون: أوحي يا رسول الله أم هو رأي لك - أو ما معناه - فإن أخبرهم أنه من
عنده ذكروا ما عندهم من الرأي، وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يرجع إلى رأيهم
أحيانًا إذا ظهر أنه الصواب، وربما أيد الوحي رأي بعضهم على رأيه، كما في
مسألة أسرى بدر، ومن حكمة ذلك أن يفرق الناس بين العبد والرب والمخلوق
والخالق الذي لا يحيط علمًا بوجوه المنافع والمصالح غيره تعالى، فلا يعبدوا نبيهم
ويعطوه بعض خصائص الألوهية.
وقلت: إن الإصلاح الحقيقي هو البناء على الأساس الأول الذي ترتقي به
الأمة، وإذا وُجد شيوخ عارفون بالدين وحكمه وأسراره، وتولوا مشيخة الطرق
يمكنهم أن يرشدوا العوام، وإن اعتادوا على أن لا يخضعوا الخضوع التام إلا لمن
يدَّعي الكرامات، ويموه عليهم بالأوهام والخزعبلات، وأما استخدام الطاعة العمياء
والتسلط على إرادة العامة بدعوى الولاية والتصرف في الكون ونحو ذلك، فيمكن
لمن يستخدم ذلك بعقل ودهاء أن يُحْدِث انقلابًا عظيمًا، ويؤثر تأثيرًا كبيرًا باسم
الإسلام، كما فعلت جمعية الجزويت اليسوعية في النصرانية، وكما فعل كثيرون
من المسلمين لكن بغير سياسة وحكمة، وآخر هؤلاء مهدي السودان ولكن هذا لا
يكون إصلاحًا إسلاميًّا مبنيًّا على أساس الإسلام، وإن أمكن أن ينتفع به المسلمون
من بعض الوجوه.
ثم قال بعض العقلاء الاجتماعيين: إنكم لم تبينوا أيَّ إصلاح تريدون إن كنتم
تريدون الإصلاح السياسي، فالبحث في محله، وإن كنتم تريدون الإصلاح الديني فلا
سبيل إليه إلا بمحو هذه الطرق كلها؛ لأنها هي التي أدخلت الوثنية في الإسلام من
عدة قرون، فهي لا تتفق معه مطلقًا على أن الروابط بين أهلها قد تقطعت، ولم
يبق فيها طريقة يتصل بها بعض أهلها ببعض في كل بلد توجد فيه إلا اثنتان،
الطريقة المولوية وهي محصورة في بلاد الدولة العلية وأهلها أبعد الناس عن السنة
وسيرة السلف الصالح، والطريقة التيجانية في الغرب وهي التي صار زمامها في
أيدي الفرنساويين حتى أنهم صاروا فيها شيوخًا مرشدين.
وذكرنا السنوسيين أيضًا. وهذا بعض ما جرى في مجلس واحد، وقد جاءتنا
في هذه الأيام رسالة من السودان في الطرق هناك، وفيها تفصيل خرافات شيخ
الطريقة الإسماعيلية التي هي فرع من الطريقة المرغنية الختمية، ومنها أن
صاحبها يدَّعي أن الله يكلمه ويعده، وكذلك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم،
وسننشرها في المنار لتكون عبرة لمثل الشيخ أحمد الألفي الذي يُسَلِّم بكل ما عليه
المنتسبون إلى الطريق، ويحتج على ذلك بتلقين النبي صلى الله عليه وسلم
الصحابة كلمة لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.