للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


وظائف علماء الدين

إذا طالب عقلاء المسلمين وفضلاؤهم العلماء بالعمل وخدمة الأمة التي أشرفت
على الانحلال بتوانيهم وإهمالهم، وعكوفهم على ما يرون أن فيه منفعتهم الشخصية -
ينبري علماء السوء الذين سماهم الله تعالى ظالمي أنفسهم للطعن في المطالب
قائلين: إنه أهان العلماء، وحاول إزالة سلطانهم ونفوذهم من نفوس العامة، كأنهم
يرون أن غاية العلم وفائدته تعظيم العامة لهم وإكرامهم بالمال وغيره؛ ولكن الله
ورسوله يشهدان على أن من يطلب العلم لهذه الغاية عدو لله مستحق لمقته وعقوبته.
آيات القرآن التي تأمر بالإخلاص وابتغاء مرضاة الله تعالى وحده في كل أمر
ديني كثيرة، وكذلك الأحاديث الصحيحة ومنها ما رواه أحمد ومسلم والنسائي أن
النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: (إن أول الناس يُقْضَى عليه يوم القيامة
رجل استشهد فأُتِي به فعرَّفه نعمته فعرفها [١] ، قال فما عملت فيها؟ قال قاتلت فيك
حتى استشهدت، قال كذبت؛ ولكنك قاتلت ليقال جريء، فقد قيل ثم أُمر به فسحب
على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلَّمه، وقرأ القرآن فأُتِي به
فعرَّفه نعمته فعرفها، قال فماذا عملت فيها؟ قال: تعلَّمت العلم وعلمته، وقرأت
فيك القرآن، قال: كذبت؛ ولكنك تعلمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو
قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وَسَّعَ
الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي فعرفه نعمته، فقال ماذا عملت فيها؟
قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها، قال: كذبت؛ ولكنك
فعلته ليقال هو جواد فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار) رواه
غير هؤلاء الثلاثة بألفاظ أخرى، وفي حديث للحاكم مختصر أن النبي صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم قال: (ثلاثة مهلكون عند الحساب جواد وشجاع وعالم) .
فعلمنا من هذا أن العالم الذي غرضه من العلم السمعة، وأن يحترمه العوام
ويكرموه هو من أهل النار، وإن كان عاملاً بعلمه ومفيدًا للناس؛ لأن الله لا يقبل
من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه الكريم، فما بالك إذا كان غير عامل ولا معلِّم،
وكان يتخذ العلم أحبولة لصيد المال بالباطل، وحيلة لإضاعة الحقوق كبعض متفقهة
الحنفية وقضاتهم الذين يتفقون مع المحامين الذين لا ذمة لهم ولا أمانة على إضاعة
الحقوق، واقتسام الجعل على ذلك، هل يُعد هؤلاء الفجار من علماء الدين الذين
يجب احترامهم وإكرامهم؟ كلا بل أولئك حزب الشيطان، ألا إن حزب الشيطان
هم الخاسرون.
لو كانوا من حزب الله وعلماء دينه لخافوه وخشوا منه، فقد قال تعالى: {إِنَّمَا
يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} (فاطر: ٢٨) ولا شك أن من يعرف الله يخافه
تعظيمًا وإجلالاً، ويخافه حذرًا من عقوبته، ولو كان هؤلاء يخافون الله تعالى لما
تمادوا في الظلم، وهو كما ورد ظلمات يوم القيامة وهو من الذنوب التي لا يغفرها
الله تعالى، إلا أن يغفر المظلوم وأكثر المظلومين لا يغفرون لمن ظلمهم، وقد ورد
في الصحيحين أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال لمعاذ حين أرسله إلى
اليمن (اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) فثبت بهذا أنهم لا
يعرفون الله تعالى، ومن لا يعرف الله تعالى فهو أجهل الجاهلين، وإن حفظ
الشرنبلالية والتتارخانية والولواجلجية وابن عابدين.
علماء الدين هم الذين يقومون بحقوق الدين، ويؤدون وظائف العلم به
فيكونون كالمطر حياة للبلاد وللعباد. روى البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي
موسى عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال (مثل ما بعثني الله به من
الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت
الكلأ والعشب الكثير [٢] ، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس
فشربوا منها وسقوا ورعوا [٣] ، وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء
ولا تنبت كلأ [٤] ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلَّم
ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به) وهذا الحديث
الصحيح بمعنى الآية الشريفة التي افتتحنا بها مقالة (علماء الدين) في الجزء
الماضي، فالظالم لنفسه هناك هو المضروب له مثل الأرض القيعان التي لا ينتفع
بها، وأما الذي يؤذي الناس بتعليمهم الحيل الفقهية التي يأكلون بها السحت
ويهضمون الحقوق، فهو شر الأشرار ولم يذكر هنا ولا هناك؛ لأنه ليس من علماء
الدين بالمرة، وقانا الله والناس من شره.
ما هي وظائف علماء الدين؟ يقولون: هي حفظ علوم الدين مقاصدها ووسائلها
وتعليمها للناس، وما الغرض من هذه العلوم إلا حفظ الدين ولغته العربية،
وانتشارهما، فهل هما في هذه العصور محفوظان ومنتشران بسعي العلماء فنبرئهم
من التقصير؟ بيَّنا في الجزء الماضي أن أكثر المسلمين غير عاملين بالدين على
وجهه، وأقمنا على ذلك البرهان الذي لا ينقض، ونقول الآن في اللغة: إن الأزهر
وهو أكبر مدرسة دينية في العالم لا يوجد بين هؤلاء الألوف من المدرسين
والمتعلمين فيه عشرة نفر يفهمون كلام العرب، ويقدرون على الكلام العربي البليغ
قولاً وكتابة، وإذا زعم المكابرون أن هذا القول غير صحيح فليعدوا لنا عشرة منهم
يفهمون اللغة وينطقون بها ويكتبون وليبرزوهم للامتحان.
يخرج في كل عام من المدارس الأميرية وغيرها مئات يحسنون التكلم بلغة
أجنبية، ولا يخرج من الأزهر مجاور واحد يحسن اللغة العربية، فهل صار تحصيل
لغة القرآن وهي أفصح اللغات وأعذبها متعذرًا، وتحصيل تلك اللغات التي سمتها
العرب أعجمية تشبيهًا لأهلها بالعجماوات - كما قال بعض الأذكياء - سهلاً متيسرًا؟
كلا إن العربية ضاعت بفساد التعليم، بل بفقده فإن الاشتغال ببعض الكتب الفنية لذاتها
والمحاورة في أساليبها الضعيفة الركيكة لا يوصل إلى اللغة؛ وإنما يعين على
تحصيلها فهم القواعد مع الأمثلة والشواهد، إذا جيء إليها من طريقها، ودخل عليها
من بابها، وهو مدارسة كلام أهلها وحفظ جملة صالحة منه مع الفهم كما بيَّناه في
المنار مرارًا.
وُجد في مصر عالم من علماء اللغة يُعَدُّ في طبقة الأئمة الحفاظ الذين وضعوا
لها المعاجم، ودوَّنوا الدواوين وهو الشيخ محمد محمود الشنقيطي، فلم يعرف له
فضله أحد من علماء الأزهر ويرشد الناس إلى الانتفاع بعلمه إلا مفتي الديار
المصرية الشيخ محمد عبده وكان ينبغي لشيخ الأزهر أن يندبه لقراءة أشعار العرب
وأراجيزهم في الأزهر، وقراءة بعض الكتب النافعة ككتاب سيبويه، وكتاب الكامل
للمبرد، ويأمر العلماء ونجباء المجاورين بالتلقي عنه إذا كانوا يودون إحياء اللغة،
ولا يحيا الدين إلا بحياة لغته؛ ولذلك أوجب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه
على كل مسلم أن يتعلمها كما في كتاب الأم، وأكثر علماء الأزهر شافعية.
هذا كلام إجمالي في وظائف علماء الإسلام التي يُسَلِّم جميعهم بأنها مطلوبة
منهم، ولو بسطناها بالتفصيل لاحتجنا إلى إعادة كثير مما كتبناه في مقالات سابقة،
من ذلك أن الدعوة إلى الدين من أهم وظائف العلماء به، وقد كتبنا فيها مقالتين
مسهبتين في الجزئين ٢٠ و ٢١ من المجلد الثالث، ومنها المدافعة عن الدين وردّ
الشبهات التي ترد عليه من المشتغلين بالعلوم الكونية، ومن أهل الأديان الأخرى،
وهذه الوظيفة تستلزم أن يعرف علماء الدين جميع العلوم الكونية، لا سيما التي
ساقت المسلمين طبيعة العمران إلى تعلمها كالرياضيات والطبيعيات والتاريخ
بأنواعه والفلسفة، وإننا نرى الذين يتلقون هذه العلوم يقعون في شبهات تزلزل
عقائدهم، ومنهم من يمرق من الدين مروق السهم من الرمية، وقد ابتلينا بمناظرة
كثيرين منهم ووفقنا الله تعالى لإقناع بعضهم وإلزام بعض، ورأينا بعضهم يتألم
ويتململ من الشبهات ويقولون إنهم طلبوا كشفها ممن يعرفون من علماء الدين،
فمنهم من لم يفهم الشبهة؛ لأن فهمها يتوقف على معرفته بالعلم الذي تولدت منه،
ومنهم من كان يكذِّب بها وينكرها بالمرة، بدعوى أن الذين قالوها أو اكتشفوها كفار
فكان مثلهم كمثل ذلك القاضي الشرعي الذي استحل شرب نوع من الخمرة بناء على
أن الذي اشتراها له روى عمن اشترى منه، وهذا روى عن صانعيها وكلهم كفار لا
تُقْبَل روايتهم، ومنهم من كان يكتفي من الجواب بقوله: إن هذا كفر وإن كلام الدين
وعلماء الدين أصدق من كلام الفلاسفة والكافرين، ونحن نقول: يستحيل الخلاف
والتناقض بين الدين الإسلامي وما ثبت من العلوم الكونية، وقد بيَّنا هذا في مقالة
الشريعة والطبيعة والحق والباطل، فلتراجع في المجلد الثاني (صفحة ٦٤١) .
يبحث كُتَّابنا وكتاب أوربا في مستقبل الإسلام، وليس أمام المسلمين إلا أحد
أمرين (١) الأخذ بأسباب القوة والثروة من طريق العلوم الكونية بباعث الدين،
وعلى الوجه الذي يحفظ مجده، ولا يمكن أن يكون هذا إلا إذا كان زمام التعليم في
أيدي علماء الدين، ولا يكون زمامه في أيديهم حتى يكونوا عارفين بهذه العلوم حق
المعرفة مع الحكمة والسياسة وحسن التوسل للتوصل، و (٢) الوقوع في أسر
أوربا واستعبادها.
البلاد الإسلامية على قسمين: بلاد فاض عليها سيل أوربا، وبلاد لمّا يأتيها
السيل الجارف؛ وإنما أصاب بعضها رشاش منه ينذرهم بالطوفان العظيم (والسيل
حرب للمكان العالي) ولذلك جرف الحكام قبل المحكومين وهم له كارهون،
والناس تبع لرؤسائهم في الدين والدنيا، فإذا ذهب التيار برؤساء الدنيا، فالمطلوب
من رؤساء الدين السعي في إنقاذهم وإنقاذ سائر الأمة؛ فإن أمراء المسلمين وحكامهم
لم يبلغوا مبلغ حكام أوربا في نبذ الدين وراء ظهورهم، فهم في الغالب يعتقدون
بحقيته ولا يرون سبيلاً لإقامة أحكامه؛ لأن العلماء لم يجلوها لهم على الوجه الذي
ينطبق على مصالح البشر في هذا العصر، بل ظهر لهم عجز علماء المسلمين عن
إقامة العدل وحفظ مصالح الناس في الأحكام الشخصية التي عُهدت إليهم في المحاكم
الشرعية.
فإذا استطاع العلماء في هذه البلاد أن يحولوا سيل العلوم والمدنية إلى
المجاري الإسلامية، يتسنى لهم بعد ذلك أن يفيضوا منه على البلاد الأخرى، وهي
تقبله سريعًا؛ لأنه جاء من قِبَل إخوانهم في الدين فيعم الإصلاح بوقت قريب، ألا
ترى أن مسلمي الهند كانوا يخافون من هذه العلوم التي يستنشقون اليوم منها نسيم
الحياة؛ لأنها جاءتهم على أيدي الإنكليز.
ونقول في الختام: من وظائف علماء الدين نشر لغة الدين بجعلها لغة
التخاطب، ولغة العلوم لتستغني الأمة بها عن اللغات الأجنبية إلا نفرًا يترجمون
وينقلون، ومن وظائفهم الاستعداد للمدافعة عن الدين ومقاومة البدع ورد الشبه التي
ترد عليه، ومن وظائفهم نشره والدعوة إليه، ومن وظائفهم تعميم تعليمه على
الوجه الذي يرقي العقول والأرواح، ويرشد إلى سعادة الدارين، ومن وظائفهم
التربية الدينية العملية التي تطبع ملكات الفضائل في النفوس، والأعمال تابعة
للعقائد والملكات، فمتى صلحا بالتعليم الصحيح والتربية النافعة حسنت الأعمال
وسعدت الأمة، ومن وظائفهم إزالة الخلاف في الدين وجمع كلمة المسلمين، ومن
وظائفهم الاجتهاد في جعل جميع كتب التعليم من تأليفهم، كيلا يدخل فيها ما يزعزع
الاعتقاد، أو يفسد الآداب، بل لتكون مزيد كمال في الإيمان، ومن وظائفهم القيام
بجميع مصالح الأمة حتى السياسية والحربية؛ لأن الإسلام دين جامع لكل ما
يحتاجه البشر، فإذا كانوا قد سُلبوا هذه الرياسة لتقصيرهم، فينبغي لهم أن يستعدوا
لها حتى إذا أعطوها أقاموا بها حق الإسلام، ونصروا الدين ... إلخ إلخ.
فهل أدوا وظيفة من هذه الوظائف حقها، وقاموا بها كما ينبغي؟ ولا ينتفي
عنهم التقصير الذي نسبه إليهم شيخ الإسلام ومفتي الديار المصرية، إلا إذا قاموا
بها كلها وظهر أثرها في إسعاد الأمة وترقيها، وعند ذلك يعظّمون بحق، وإذا
تمادوا في هذا الإهمال، فلا يمضي زمن يسير حتى يزول ما بقي لهم من الكرامة
والإجلال، ويُحْرَمون الجاه والمال، ويكون مآلهم شر مآل، وبعد ذلك يقيض الله
لدينه من شاء من الأمم ليظهره على الدين كله، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلى
على الظالمين.