للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأسئلة الدينية وأجوبتها

تتمة أسئلة الشيخ أحمد محمد الألفي بطوخ
(٣) ومنه: ما حكم من يستغيث ويستمد من النبي صلى الله عليه وسلم
وأولياء أمته شيئًا مما يجوز سؤاله شرعًا من أمور الدنيا والآخرة معتقدًا أن نسبة
ذلك إليهم إنما هو على سبيل المجاز وهو سبب عادي لهم، فإن شاء الله أجاز
شفاعتهم وإلا ردها، وليس لهم سلطة غيبية فيما وراء الأسباب، وأنه لا يعبد غير
الله تعالى ولا تأثير لمخلوق في أثر ما لكن لما كان من الجائز وقوع الكرامات
للأولياء الكرام، فلا مانع من أن يطلعهم الله بالكشف على حاجة من يستمدهم
فيقضونها بالذات، أو بواسطة ملك من الملائكة إن أذن الله لهم بذلك، ولا يعظّم
وليًّا أو نبيًّا يخرجه عن العبودية مطلقًا، هل يعد هذا الاعتقاد شركًا بالله تعالى
ومروقًا من الإسلام؟ أم حرامًا؟ أم مكروهًا؟ أم جائزًا كما نعتقده اهـ بحروفه.
(ج) السؤال ظاهر التناقض والتعارض، والمفهوم منه بقرينة ما هو
معروف من أعمال العامة، واعتقاداتهم أنه يريد السؤال عن مشروعية طلب قضاء
الحاجات الدنيوية والأخروية من الأنبياء والأولياء بعد موتهم، وقال: إن هذا سبب
عادي لهم، ثم ذكر أنه رأي مبني على جواز وقوع الكرامات، والمعروف في علم
الكلام أن الكرامات من خوارق العادات، أي ليست من الأسباب العادية وهذا هو
التناقض.
أما هذا الطلب فهو من البدع التي لم تُعرف في عهد النبي صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم، ولا في عهد الخلفاء الراشدين الذين أمر عليه الصلاة والسلام
باتِّباع سنته وسنتهم وحذر مما يحدث بعد ذلك، وقد أخبر الله تعالى في كتابه بأنه
أكمل الدين، ونحن نعتقد أنه لم يعمل به على كماله أحد مثل الصحابة الكرام، فلو
لم يرد في الكتاب والسنة ما يدل على أن لا ندعو مع الله أحدًا ولا نطلب ما نعجز
عنه من حاجاتنا إلا من الله تعالى وحده لكان الأخذ بسنة الخلفاء الراشدين والصحابة
الكرام كافيًا في أن لا نزيد في الدين شيئًا، فيسعنا ما وسعهم، ومن يزعم أنه ورد
عنهم شيء يحتج به في طلب قضاء الحاجات من الأموات أو من النبي صلى الله
تعالى عليه وسلم بعد موته، فليبينه لنا لنهتدي به، أما أدلة المنع فسنشير إليها في
جواب السؤال (٥) .
هذه المسألة من المسائل الاعتقادية، وهي فرع مسألة الواسطة الآتية،
والخطأ في العقائد كفر في الغالب بخلاف الخطأ في الفقه فإنه خطأ يغفر؛ ولذلك
كان الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه ينهى عن الخوض في علم الكلام ويقول:
لأن يقال أخطأت خير من أن يقال كفرت، وأقول على فرض أن هذا الطلب جائز
كما يعتقد السائل: أليس من الاحتياط في الدين ترك هذا الجائز خوفًا من خطر الخطأ
في الاعتقاد على ما يعتقده غيره؟
قال المنجم والطبيب كلاهما ... لا تبعث الأموات قلت إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر ... أو صح قولي فالخسار عليكما
***
(٥) ومنه ما هو الفرق بين مذهب الوهابية، ومذهب ابن تيمية وحضرة
صاحب المنار وغيرهما سلفًا وخلفًا في الواسطة؟ وهل قام صاحب نحلة أو مذهب
جديد من الخوارج أو الوهابية أو البابية لا يتخذ الكتاب والسنة عمدته في الاحتجاج
سترًا لمبادئه التي يدعيها؟ وما قول حضرته في كتاب إعجاز المسيح في التفسير
الصحيح الذي ظهر اليوم لمن يدَّعي المهدوية بالهند في تفسير فاتحة الكتاب،
وجعله الدليل على صحة دعواه عجز الإنس والجن عن عمل تفسير كتفسيره في
مدى قصير كالمدى الذي عمل فيه هذا التفسير هل مصيب؟ أم مخطئ فيما يدَّعيه
اهـ. بحروفه.
(ج) مذهب السلف والخلف في الإسلام أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
هم الواسطة بين الله تعالى وبين عباده في تبليغ دينه لقوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ
المُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} (الأنعام: ٤٨) وقوله عز وجل: {إِنْ عَلَيْكَ
إِلاَّ البَلاغُ} (الشورى: ٤٨) وغير ذلك من الآيات الكثيرة الواردة بصيغة النفي
والإثبات ككلمة التوحيد، وأنه لا واسطة بين الله تعالى وعباده في غير تبليغ دينه
من نحو قضاء حاجة سلبية كالشفاء من مرض، أو وقوعية كسعة الرزق أو هداية،
والدليل على هذا الآيات الواردة بصيغة الحصر وهي كثيرة جدًّا - كما قلنا -
والبراهين العقلية القاطعة بأن الله تعالى غني عن المساعدة والوزير والمعين؛ لأنه
على كل شيء قدير لا يحتاج إلى من يعطفه على عباده لأنه أرحم الراحمين،
فرحمته ورأفته لا تقبل الزيادة لأنها في نهاية الكمال، وقد سبق علمه بكل شيء فلا
يمكن أن يغيره أو يزيد فيه أحد، ولا نطيل في سرد الأدلة؛ لأننا كتبنا فيها مرارًا
وأوردنا الآيات والأحاديث الصحيحة فيها وأوَّل سؤال ورد علينا فيها نشر في العدد
الرابع من المجلد الأول، وأوضح ما كتبناه فيها هو الدرس الثامن من الأمالي
الدينية فليراجع في الصفحة ٦٣٠ من المجلد الثاني.
أما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فكان من أنصار السنة وأكابر
حفاظها والداعين إليها، والآمرين بما عرَّفته والناهين عما أنكرته في زمن ترك
المسلمون فيه الدعوة إلى دينهم بالمرة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في
الغالب، وقد ألف في البدع والضلالات التي رآها فاشية رسائل نفيسة يؤيد فيها
السنة ومذهب السلف، ويدحض شبه أهل البدع، ومنها رسالة مخصوصة في
الواسطة طُبعت من عهد قريب في مطبعة المؤيد، فعلى السائل أن يطالعها، وأما
الوهابية، فالذي علمناه عنهم أنهم يعتقدون في هذه المسألة اعتقاد السلف أيضًا،
وسنذكر في فرصة أخرى شيئًا من تاريخهم وما قيل فيهم.
ومن عجيب القول قول هذا السائل: وهل قام صاحب نحلة ... إلخ؛ فإننا لا
نجد له وجهًا صحيحًا فهل يقول صاحبه أن المبتدعة هم الذين اتخذوا الكتاب والسنة
عمدتهم دون أهل الحق، فيجب أن نخالفهم بترك الاعتماد على الكتاب والسنة؟ هذا
هو ظاهر العبارة وهو أمر بترك الإسلام واتباع الأوهام لا يرضاه السائل ولا يريده
ولعل مراده أننا لا ينبغي لنا أن نأخذ بقول كل من يدعي الاعتماد على الكتاب
والسنة؛ لأن المبتدعة يشاركون أهل الحق في هذه الدعوى.
ويرد عليه ههنا سؤال وهو: أن المذاهب في الأصول والفروع كثيرة، وكل
أهل مذهب يدعون الاعتماد على الكتاب والسنة، فبم نعرف المحق من المبطل؟
وكيف نميز بين الحق والباطل؟ إن قال نعرف ذلك بتمحيص الأدلة والتمييز بين
الحجة والشبهة، فهذا هو الاجتهاد الذي يفر منه وينكر على من يقول به، وإن قال
نقلد من كان أكثر تابعًا، نقول (أولاً) إن كثرة المتبعين لا تدل على أن الحق في
جانب من اتبعوه لا سيما إذا كانوا مقلدين يأخذون بقول صاحب المذهب من غير
معرفة دليله، وكيف يقوى الحق بمن لا يعرف الحق؟ هذا وإن أكثر الناس كافرون
{وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (الأنعام: ١١٦) وإن
كانوا من المؤمنين بالله لقوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف: ١٠٦) و (ثانيًا) أن الأئمة الذين يذكرهم في السؤال الآتي لم يكن لهم
في عصرهم إلا القليل من المتبعين فإذا كان الحق يُعرف بكثرتهم فكيف عُرف
يومئذ فإن كان عند السائل جواب على هذا فليكتب به إلينا، وإلا فليرجع إلى
مقالات المصلح والمقلد ففيها البيان الكافي لقوم يعقلون.
وليعلم أن البابية ليسوا أصحاب مذهب جديد في الإسلام كما يتوهم، بل هم
أصحاب دين جديد وشريعة جديدة، ويحتجون على المسلمين بتأويل بعض الآيات
والأحاديث على طريق تأويل الصوفية كما يحتجون على اليهود والنصارى من
كتبهم، ودينهم أقرب إلى دين النصرانية منه إلى غيره؛ فإنهم يعتقدون أن البهاء
المدفون في عكا هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام ... إلخ {سُبْحَانَ
رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الصافات: ١٨٠) .
وأما كتاب إعجاز المسيح فقد تصفحته بعد الابتداء بكتابة هذا الجواب، فإذا
هو قد سلك فيه مسلك الباطنية والمتصوفة في التأويل، وليس فيه وهو ٢٠٠
صفحة ورقة واحدة في حقيقة التفسير، وليس خلطه وهذيانه فيه بأكبر من الخلط
والهذيان في التفسير المنسوب إلى الشيخ محيي الدين بن عربي أحد أئمة الصوفية،
ولو لم يدَّع هذا الرجل أنه هو المسيح، ويحرف كلمات الفاتحة، فيجعلها دليلاً على
دعواه ويجعل تفسيره معجزة يتحدى بها - لتلقَّى هذا التفسير بالقبول أكثر المسلمين
ومنهم السائل المحترم؛ ولأقاموا النكير على مثلي إذا هو انتقد عليه، كما ينكرون
عليّ الانتقاد على من دونه في العلم والتأليف، وقد كان هذا الرجل شيخ طريق
يفوق أكثر المشايخ بالعلم والفصاحة والصلاح فغرَّه كثرة أتباعه، وتفننه في
أسجاعه، على ما في ألفاظها من الغلط، وفي معانيها من الشطط، وقام عنده أن
اعتقاد المسلمين بالمهدي والمسيح، قد انتشر على وجه غير صحيح، وأنه يجب
أن يصلحه بذاته، ويؤيد دعواه بما يعتقد متبعوه من آياته.
وأما تحديه بالكتاب فهو - إذا لم يعارَض - شبهة على المعجزة بالمعنى
المعروف عند المتكلمين لا بالمعنى الذي حققناه في الجزء العاشر من المنار، وقال إنه
كتبه في سبعين يومًا، ونقول: إن كثيرًا من أهل العلم ليستطيعون أن يكتبوا خيرًا منه
في سبعة أيام، ولو على طريق الشقاشق والأوهام؛ ولكن أين الحَكَم الذي يرضاه
تلامذته والمغترون به؟ إننا نفند كثيرًا من البدع الشائعة بين المنتسبين إلى الطريق
ولكن أكثرهم لا يقرءون ومن قرأ لا ينتفع إذا كان يخضع لشيخه ويقلده تقليدًا أعمى؛
لأنك إذا قلت له قال الله كذا، يقول إن شيخي أعلم بقول الله منك، وهكذا إذا احتججت
بالسنة، وحجتنا الكبرى في مسألة الواسطة وفروعها على هؤلاء المقلدين سيرة
الصحابة الكرام في العمل، فإذا قال أحدهم إن الشيخ فلان قال كذا أو فعل كذا نقول له
كيف عرف شيخك ما لم يعرفه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهل كان
أهدى منهم؟ كما قال أحد أكابر التابعين لقوم اجتمعوا على ذكر بصفة لم تعهد فقال
لهم: إما أن تكونوا أهدى وأفضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما
أن تكونوا قد ابتدعتم في الدين وزدتم فيه ما ليس منه، أو كما روي.
هذا وليس دخول مسيح الهند في هذه الدعوى من باب التصوف الواسع
بأعجب من دخول الشيخ محمد أبي الخليل المقيم في الزقازيق منه إلى دعوى تفسير
القرآن؛ فإن ذلك عالم مطلع وهذا جاهل وهو يزعم أن من بات عنده يصبح حافظًا
للقرآن، وقادرًا على تفسيره، وأنه يملي كتبًا في تفسير آية واحدة، أو كلمة من
آية، وقد اغتر به كثيرون، ومن أنكر عليه يقول السفهاء فيه أنه ينكر الكرامات
ويبغض الأولياء، هذا سلاحهم الذين يحاربوننا به؛ وإنما يحاربون الحق {وَاللَّهُ
غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (يوسف: ٢١) .
***
(٦) ومنه: المعروف عند المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن أهل
السُّنة والجماعة هم أبو الحسن الأشعري وأبو منصور الماتريدي ومن تابعهما في
الاعتقاد، والإمام الجنيد ومن تابعه في التصوف، والأئمة الأربعة المجتهدون ومن
تابعهم في الفروع، وسائر الأئمة غير المبتدعة خلاف هؤلاء على هدى من ربهم
بحكم مذاهبهم، وقد دخل بعض البدع على كتب أهل السنة والجماعة، وليس من
مذاهبهم ولا من لوازمها، وحيث دُوِّنت الأحكام، وضُبطت الأصول هل من طريق
سوى العمل بهذه الأحكام ثَم لنا؟ اهـ بحروفه.
(ج) نحن نوافق السائل في أن هؤلاء الذين ذكرهم من أئمة المسلمين
المجتهدين في أصول الدين وفروعه، وحكم المجتهد أنه إن أصاب فله أجران،
وإن أخطأ فله أجر واحد، ونوافقه أن هناك أئمة غيرهم على هدى من ربهم،
ونوافقه في أن بعض البدع دخل على كتب أهل السنة والجماعة، وأنها ليست من
مذاهب الأئمة؛ فإن مذاهبهم متفقة على الأخذ بالكتاب العزيز والسنة الصحيحة،
فمن ألحق بالدين شيئًا زعم أنه منهم، أو مستنبط من كلامهم وهو يخالف الكتاب
والسنة فهو مردود عليه وهم براء منه، ونقول: إنه ينبغي لنا أن نهتدي بهديهم في
ذلك، ونبحث عن دليل كل ما يعزى إليهم لنميز بين ما صح عندهم، ووافق
أصولهم وبين ما دخل من البدع في كتب المنتسبين إليهم، وقد نقل عنهم العلماء
أنهم كانوا يقولون: لا يصح لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعرف دليلنا، وقال الإمام
الشافعي رضي الله عنه كما في كتاب الأم بعد كلام: (وهذا يدل على أنه ليس لأحد
دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول إلا بالاستدلال) أي فالرسول وحده
هو الذي يُقبل كلامه في الدين من غير مطالبة بدليل؛ لأنه دليل نفسه.
ولا نطيل في هذا المقام فسيأتي تفصيله في محاورات المصلح والمقلد والله
الهادي إلى سواء السبيل.