للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الرجال والنساء
من أغوى الآخر في الشرق وأوربا - إصلاح الإسلام للنساء - تمني
الأوربيات تعدد الزوجات - الاختلاط ومضرته - عاقبة الأمر في أوربا والمسلمين.
{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا
مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (النساء: ٣٤) ، {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ
دَرَجَةٌ} (البقرة: ٢٢٨) .
هذا ما قاله فاطر السموات والأرض وما فيهن، وشارع دين الفطرة ليبلغ به
عباده الكمال، من النساء والرجال، وقد دل العلم وشهد التاريخ على أن ما أرشد
إليه الكتاب العزيز من قيام الرجال وسيادتهم على النساء هو الحق الواقع والفطرة
الصحيحة؛ ولكن الرجال ظلموا وأساءوا في هذه الكفالة والسيادة فاستعبدوا النساء
ووأدوا البنات (دفنوهن أحياء) ولولا حاجتهم إليهن لأفنوا النوع الإنساني بإفنائهن
وما وجدت شريعة ولا ديانة أنصفت النساء وأعطت كلاًّ من الرجل والمرأة حقه
إلا ديانة الإسلام الحقة وشريعته العادلة؛ ولكن المسلمين ما رعوها حق رعايتها
فمنهم من وفَّى فَوُفِّي أجره وكثير منهم فاسقون.
بيَّن الله تعالى أن للمرأة على الرجل من الحقوق مثل الذي له عليها بالمعروف
وأنه لا يمتاز إلا بالولاية ورياسة المنزل؛ لأن البيوت نموذج الأمة، فكما أن الأمة
لا ينتظم أمرها إلا برئيس عادل، كذلك البيت (العائلة) لا بد له من رئيس له
السيطرة والقيام بالشؤون العامة.
ولما كان الإسلام مبنيًّا على قاعدتي الاستقلال بالفكر، والاستقلال بالإرادة،
وشريعته مبنية على المساواة والعدل، ومن مقتضى القاعدة الأولى أن يعرف
الإنسان الحق بدليله لتنبعث إليه إرادته بنفسها؛ لأنه الحق النافع في علم صاحبها،
بيَّن الله تعالى لنا بفضله المرجِّح لكون الرجل هو القيم على المرأة، وهو تفضيله
بنحو القوة والقدرة على الحماية والكسب، وهذا مرجِّح فطري طبيعي، وإنفاقه
المال في المهر وغيره وهذا مرجِّح اجتماعي عقلي، والشريعة الإسلامية موافقة
دائمًا للفطرة الإلهية، ومطابقة للمصالح الاجتماعية ومؤيدة بالدلائل العقلية.
عُرف في سيرة البشر أن القوة تعتدي دائمًا على الحق وتهضمه، وقد كان
رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أعرف الناس بسنن الله تعالى في الناس
ولهذا كان يكرر الوصية بالنساء والأرقاء وهو في حالة النزع وسكرات الموت،
كما كان ينهى عن تعظيم قبره وقبور الأنبياء والصلحاء؛ لأن ما يوصي به في هذه
الحالة لا بد أن يعتني به متبعوه أشد الاعتناء لما للكلام حينئذ من التأثير؛ ولأنه من
المعلوم بالبداهة أن الإنسان لا يهتم عند الموت إلا بأهم الأمور، ولا شك أنه عليه
الصلاة والسلام كان عالمًا بأن أعظم فتنة تستقبل أمته من طريق الاعتقاد والعبادة
تعظيم القبور والتماس المنافع ودفع المضار بواسطة أضرحة الأنبياء والصلحاء،
وأعظم فتنة تعرض لهم في شؤونهم الاجتماعية النساء، بل ورد التصريح بهذه
الفتنة وكذلك كان في الأمرين.
إنما كان النساء فتنة بترك الرجال مساواتهم بأنفسهم في الحقوق الاجتماعية
والأدبية، وإهمال فريضة القيام عليهن، فقد جعلت الشريعة لكل امرأة قيمًا فأبوها
وهو القيم الأول يتركها سدى تلعب بها الخرافات والأوهام، ويغويها السفهاء
والطغام، ثم تصير إلى القيم الثاني وهو الزوج فيأكل مالها إن كان لها مال، ولا
يساويها بنفسه في حال من الأحوال، ولقد كان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
يقول: إنني لأتزين لزوجي كما تتزين لي لقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ
بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة: ٢٢٨) ثم إذا مات زوجها وصارت إلى قيم ثالث في آخر
حياتها يكون مآلها شر مآل، ولو كان هذا القيم ابنها الذي لم تحسن تربيته؛ لأنها هي
وأباه لم يكونا متربين ولا مهذبين.
هذا القيام للرجال على النساء قد خصته الشريعة بالأمور الاجتماعية، فليس
للمرأة حق أن تسافر إلا مع ذي محرم، وإذا كانت متزوجة فلا بد من إذن الزوج
ورضاه ولو إلى الحج، وأعطت للمرأة الحق في التصرف في مالها، وليس للزوج
ولا لغيره من القوَّام أن يأخذ من مالها دانقًا بغير رضاها، فتصرف المسلمون
بأموال النساء وأكلوها إسرافًا بغير حق، وتركوا حبالهن على غواربهن فيما هو
موكول إليهم، فطفقن يسرحن ويمرحن ويتبرجن تبرج الجاهلية الأولى، وتركن
الصلاة ومنعن الزكاة وعصين الله ورسوله، ثم عصين الأزواج والذنب في هذا كله
على الرجال.
يشكو بعض الرجال في هذه البلاد من تهتك النساء وفساد أخلاقهن، وما
أفسدهن إلا الرجال، فالمرأة بمقتضى الفطرة والطبيعة أقرب إلى الحياء والعفة،
وأبعد من المجون والخضوع للشهوة؛ ولكن هؤلاء الرجال الظالمين الضالين
المضلين هم الذين يغوونهم، ثم يشكون منهن وينسبون إليهن كل غواية وفساد محتجين
بقول المثل الفرنساوي: (ابحثوا عن المرأة) .
بحثنا وسألنا الباحثين فألفينا الرجال في الأسواق والشوارع يتعرضون لمغازلة
النساء، ولإيذائهن بالقول والفعل، ووجدنا أكثرهن لا يلتفتن لأكثرهم، رأينا هذا
ونحن نعلم أن الرجال أكثر علمًا بأمور الدين وأمور الدنيا، وأكثر شغلاً وعملاً فما
أغنى عنهم علمهم ولا أعمالهم، فكيف يكون الحال لو كانت أفئدتهم هواء كأفئدة
النساء؛ فإن المرأة عندنا لا تتعلم شيئًا يشغل فكرها عن تدبير الحيل لإجابة داعي
الطبيعة، ولا تتربى على ملكات فاضلة تقف بالقوى الحيوانية عند حدود الاعتدال،
وليس لها أعمال شاقة تصرف النفس عن هذه الدواعي وهي مع هذا كله أقرب من
الرجل إلى العفة والنزاهة.
لما تنبه أهل أوربا إلى إصلاح شؤونهم الاجتماعية وترقية معيشتهم المدنية
اعتنوا بتربية النساء وتعليمهن، فكان لذلك أثر عظيم في ترقيتهم وتقدمهم؛ ولكن
المرأة لا تبلغ كمالها إلا بالتربية الإسلامية، وأعني بالإسلامية ما جاء به الإسلام لا
ما عليه المسلمون اليوم ولا قبل اليوم بقرون، فقد قلت آنفًا إنهم ما رعوا تعاليم
دينهم حق رعايتها، ولهذا وجدت مع التربية الأوربية للنساء جراثيم الفساد، ونمت
هذه الجراثيم فتولدت منها الأدواء الاجتماعية والأمراض المدنية، وقد ظهر بشدة
في الدولة السابقة إليها وهي فرنسا فضعف نسلها، وقلت مواليدها قلة تهددها
بالانقراض، والذنب في ذلك على الرجال.
حَذِرَ من مغبة هذه الأمراض العقلاء، وحذَّر من عواقبها الكتاب الأذكياء،
وصرَّح من يعرف شيئًا من الديانة الإسلامية، بتمني الرجوع إلى تعاليمها المُرضية
وفضائلها الحقيقية، وصرَّحوا بأن الرجل هو الذي أضلَّ المرأة وأفسد تربيتها،
وأن بعض فضليات نساء الإفرنج صرحت بتمني تعدد الزوجات للرجل الواحد
ليكون لكل امرأة قيم وكفيل من الرجال.
جاء في جريدة (لاغوص ويكلي ركورد) في العدد الصادر في ٢٠ أبريل
(نيسان) سنة ١٩٠١ نقلاً عن جريدة (لندن تروت) بقلم كاتبة فاضلة ما ترجمته
ملخصًا:
(لقد كثرت الشاردات من بناتنا، وعم البلاء وقل الباحثون عن أسباب ذلك
وإذ كنت امرأة تراني أنظر إلى هاتيك البنات وقلبي يتقطع شفقة عليهن وحزنًا،
وماذا عسى يفيدهن بثي وحزني وتوجعي وتفجعي وإن شاركني فيه الناس جميعًا؟
لا فائدة إلا في العمل بما يمنع هذه الحالة الرجسة ولله در العالم الفاضل (تومس)
فإنه رأى الداء ووصف له الدواء الكافل الشفاء، وهو الإباحة للرجل التزوج بأكثر
من واحدة، وبهذه الواسطة يزول البلاء لا محالة، وتصبح بناتنا ربات بيوت،
فالبلاء كل البلاء في إجبار الرجل الأوربي على الاكتفاء بامرأة واحدة، فهذا التحديد
هو الذي جعل بناتنا شوارد، وقذف بهن إلى التماس أعمال الرجال، ولا بد من
تفاقم الشر إذا لم يُبح للرجل التزوج بأكثر من واحدة، أي ظن وخرص يحيط بعدد
الرجال المتزوجين الذين لهم أولاد غير شرعيين أصبحوا كلاًّ وعالة وعارًا على
المجتمع الإنساني، فلو كان تعدد الزوجات مباحًا لما حاق بأولئك الأولاد وبأمهاتهم
ما هم فيه من العذاب الهُون، ولسلم عرضهن وعرض أولادهن؛ فإن مزاحمة
المرأة للرجل ستُحِل بنا الدمار، ألم تروا أن حال خلقتها تنادي بأن عليها ما ليس
على الرجل، وعليه ما ليس عليها، وبإباحة تعدد الزوجات تصبح كل امرأة ربة
بيت، وأم أولاد شرعيين) .
ونشرت الكاتبة الشهيرة (مس أني رود) مقالة مفيدة في جريدة (الإسترن
ميل) في العدد الصادر منها في ١٠ مايو (آيار) سنة ١٩٠١ نقتطف منها ما يأتي
(لأن يشتغل بناتنا في البيوت خوادم أو كالخوادم خير وأخف بلاء من
اشتغالهن في المعامل، حيث تصبح البنت ملونة بأدران تذهب برونق حياتها إلى
الأبد، ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة والعفاف والطهارة ردأ الخادمة
والرقيق يتنعمان بأرغد عيش، ويعاملان كما يعامل أولاد البيت، ولا تمس
الأعراض بسوء، نعم إنه لعار على بلاد الإنكليز أن تجعل بناتها مثلاً للرذائل
بكثرة مخالطة الرجال، فما بالنا لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل بما يوافق
فطرتها الطبيعية، من القيام في البيت وترك أعمال الرجال للرجال سلامة لشرفها)
وقالت الكاتبة الشهيرة (اللادي كوك) بجريدة ألايكو ما ترجمته:
(إن الاختلاط يألفه الرجال، ولهذا طمعت المرأة بما يخالف فطرتها وعلى
قدر كثرة الاختلاط تكون كثرة أولاد الزنا، وههنا البلاء العظيم على المرأة فالرجل
الذي علقت منه يتركها وشأنها تتقلب على مضجع الفاقة والعناء وتذوق مرارة الذل
والمهانة والاضطهاد، بل والموت أيضًا، أما الفاقة فلأن الحمل وثقله والوحم
ودواره من موانع الكسب الذي تحصل به قوتها، وأما العناء فهو أنها تصبح شريدة
حائرة لا تدري ماذا تصنع بنفسها، وأما الذل والعار فأي عار بعد هذا، وأما الموت
فكثيرًا ما تبخع المرأة نفسها بالانتحار وغيره.
هذا والرجل لا يلم به شيء من ذلك، وفوق هذا كله تكون المرأة هي
المسئولة وعليها التبعة مع أن عوامل الاختلاط كانت من الرجل.
أما آن لنا أن نبحث عما يخفف - إن لم نقل عما يزيل - هذه المصائب
العائدة بالعار على المدنية الغربية؟ أما آن لنا أن نتخذ طرقًا تمنع قتل ألوف الألوف
من الأطفال الذين لا ذنب لهم، بل الذنب على الرجل الذي أغرى المرأة المجبولة
على رقة القلب المقتضي تصديق ما يوسوس به الرجل من الوعود، ويمني به من
الأماني، حتى إذا قضى منها وطرًا تركها وشأنها تقاسي العذاب
الأليم.
يا أيها الوالدان لا يغرنكما بعض دريهمات تكسبها بناتكما باشتغالهن في
المعامل ونحوها، ومصيرهن إلى ما ذكرنا، علموهن الابتعاد عن الرجال،
أخبروهن بعاقبة الكيد الكامن لهن بالمرصاد، لقد دلنا الإحصاء على أن البلاء الناتج
من حمل الزنا يعظم ويتفاقم حيث يكثر اختلاط النساء بالرجال، ألم تروا أن أكثر
أمهات أولاد الزنا من المشتغلات في المعامل والخادمات في البيوت وكثير من
السيدات المعرضات للأنظار، ولولا الأطباء الذين يعطون الأدوية للإسقاط لرأينا
أضعاف ما نرى الآن، لقد أدت بنا هذه الحال إلى حد من الدناءة لم يكن تصورها في
الإمكان، حتى أصبح رجال مقاطعات من بلادنا لا يقبلن البنت زوجة ما لم تكن
مجربة، أي عندها أولاد من الزنا ينتفع بشغلهم! ! ! وهذا غاية الهبوط بالمدنية، فكم
قاست هذه المرأة من مرارة هذه الحياة حتى قدرت على كفالتهم، والذي علقت منه لا
ينظر إلى أولئك الأطفال ولا يتعهدهم بشيء، ويلاه من هذه الحالة التعيسة، تُرَى من
كان معينًا لها في الوحم ودواره، والحمل وأثقاله، والوضع وآلامه، والفصال
ومرارته) اهـ.
وحاصل القول: إن الرجال هم الذين أغووا النساء وأفسدوهن في جميع البلاد؛
لأنهم القوَّامون عليهن بمقتضى الفطرة، فأما أهل أوربا فهم أحياء يشعر أفرادهم
بأمراض شعوبهم وأممهم، فيصيحون ويتألمون وستفتك بهم أدواء المدنية حتى
تضطرهم إلى معرفة سائر أصول الدين الإسلامي وفروعه، وهم الآن على كثير
منها وهنالك الكمال {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ} (فصلت: ٥٣) وهو الآن غير متبين لهم لما عليه من الحجب الكثيفة، وأكثفها
المنتسبون إلى هذا الدين وما هم عليه من التقاليد التي ليست منه، بل هي مناقضة
له، وأما المسلمون فقد أصابهم خدر بطل معه ذلك الإحساس والشعور الكلي والنعرة
الملية؛ حتى كاد اليأس منهم يغلب على الرجاء فيهم، لولا أننا نرى بعض الأفراد
ينقهون فيصيحون ويتألمون ويتوجعون ويتململون، فإذا كثروا وقوي حزبهم فهم
الذين يربُّون الأمة ذكرانًا وإناثًا، يربُّون النفوس بآداب دين الفطرة القويم،
ويأخذون من نتائج علوم المدنية الغربية وفنونها ما ثبتت منفعته وأمنت مضرته،
وكل ما أخذ به المسلمون في مدارسهم من تعليم البنات فهو ناقص وفيه مضرات
كثيرة؛ لأن زمامه ليس في أيدي علماء الدين، ولن يكون في أيديهم إلا إذا أتقنوا
جميع ما يُعَلَّم في المدارس؛ ولكن العلم خير من الجهل على كل حال، وكل هذا
ممهد لما أُعِدَّ لهذه الأمة في الاستقبال، ونسأل الله التوفيق لحسن الخاتمة والمآل.