للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأخبار التاريخية

(انتقاد جريدة الحاضرة على الجناب العالي الخديوي)
نقلت جريدة المؤيد نبذة عن بعض الجرائد الأوربية في وصف معيشة مولانا
الخديو في مصيفه بأوربا، ومنه أنه يلبس في وقت كذا قبعة صفتها كذا، فانتقدت
لبس القبعة جريدة الحاضرة التونسية، وذكرت حظر فقهاء الإسلام لبسها بناء على
تفسيرها لها بما يلبسه الإفرنج وتسميه العامة (برنيطة) ونجيب بأنه يحتمل أن
تكون القبعة المذكورة كُمَّةً مما يعتاد المسلمون وغيرهم لبسه في بيوتهم وقت الراحة
والحظر الذي ذكروه مخصوص فيما جرت العادة بأن لا يلبسه إلا غير المسلمين،
بحيث لو لبسه المسلم لاشتبه بهم، على أنه ربما لبسها متنكرًا لغرض صحيح،
وتفصيل القول في التشبه المذموم وغير المذموم مفصل في مقالة نُشرت في المجلد
الأول من المنار فلتراجع.
***
(مفتي الديار المصرية في أوربا)
وقف هذا الرجل حياته على خدمة الإسلام في الحِلِّ والترحال، والسفر
والإقامة، فقد كان في السياحة الصيفية التي يظن أنه يصرفها في الراحة من عناء
أعماله الكثيرة مجتهدًا في هذه الخدمة التي لا يرى لنفسه راحة بدونها، كان في
الآستانة العلية يذاكر عظماء رجال الدولة كشيخ الإسلام وغيره في مصلحة
المسلمين، وإحياء علوم اللغة والدين، ويبحث في بيوت الكتب عن أحسن مؤلفات
السلف لأجل إحيائها، وكذلك كان في أوربا يزور مكتبات الملوك والأمراء
ومتاحفهم، ويطَّلع على آثار المسلمين القديمة ومفاخرهم العظيمة، ومؤلفاتهم النافعة
ويقتبس منها ما شاء الله أن يقتبس، وقد اطَّلع في مكتبة عاهل (إمبراطور)
النمسا والمجر على بعض آثار الصحابة رضي الله تعالى عنهم، كبعض كتب
عمرو بن العاص أمير مصر وغير ذلك.
وقضى في بلاد سويسرة زمنًا ينظر فيما كتبه الإفرنج على الإسلام، وما
وقفوا عليه من خط المسند، وما ظهر لهم في لغة سبأ وحمير، وإنها لخدمة إسلامية
حقيق بها من حبس نفسه على خدمة الإسلام والدفاع عنه، وقد انتهى إلينا أنه سافر
قاصدًا مصر، ويُنْتَظر أن يصل في يوم الاثنين (غدًا) منحه الله السلامة، ونفعنا
به والمسلمين.
(صدى حديث مفتي الديار المصرية مع شيخ الإسلام في الآستانة)
طار خبر هذا الحديث في المؤيد، ثم في المنار إلى جميع البلاد الإسلامية،
فتلقاه العقلاء والفضلاء بالقبول، ونشرته برمته الجرائد الإسلامية في الشرق
والمغرب ليعم نفعه، ويعرف عامة المسلمين كما يعرف خاصتهم بأن أكابر علمائهم
معترفون بأن معظم بلاء المسلمين قد جاءهم من تقصير علمائهم في خدمة الأمة
والملة.
***
(قول صاحب جريدة اللواء في الحديث)
عُرف صاحب هذه الجريدة عند الخواص وأهل الرأي بالتجاوز والشذوذ
والأفن والخطل، ومع هذا لم يشذ عن الجرائد الإسلامية المعتبرة في الاعتراف
بصدق الحديث وإصابته المرمى وقرطسته في الهدف؛ ولكنه لم يترك شذوذه
وتجاوزه الحدود عند الكلام عليه، فجعل الحديث برأيه الأفين حجة على المتحدثين
وسأل من لا ينظر في جريدته من شيخ الإسلام ومفتي الديار المصرية عن
خدمتهما للإسلام.
أما شيخ الإسلام فصاحب اللواء يعرف أن مولانا السلطان أيَّده الله بتوفيقه لم
يترك له ولا للوزراء استقلالاً بعمل يتعلق بالأمة، بل وضع جميع أعباء الدولة
والأمة على كاهله، فإن كان هناك تقصير فليسأل عنه صاحب الإدارة والنفوذ
المطلق، ويا ليت شعري ماذا يقول صاحب اللواء إذا سأله شيخ الإسلام عن رأيه
في الإصلاح الإسلامي الذي ينبغي أن يعمله؟ هل يشير عليه بمثل ما أشار على
مفتي الديار المصرية بأن يترك وظيفته، وينشئ مدرسة كمدرسة مصطفى كامل،
أو مدرسة الوطن، أو مدرسة باب الخلق.
وأما مفتي الديار المصرية فقد سمع الصُّم نداءه بالإرشاد إلى الإصلاح، وما
العلماء إلا مرشدون، وأبصر العمي سعيه في خدمة الأزهر الشريف والجمعية
الخيرية الإسلامية التي لها عدة مدارس كل واحدة منها خير من جميع المدارس
الأهلية، وجمعية إحياء العلوم العربية، واعترف المكابرون مع المنصفين بمروءته
وبذل جاهه وماله في خدمة المسلمين في الحكومة وغير الحكومة، ومن أعماله
القريبة تقريره في إصلاح المحاكم الشرعية الذي أجمع على استحسانه العلماء
والفضلاء، وجزموا بأنه لم يحاب الحكومة في إظهار خطأها، وأنه شخَّص الداء،
وبيَّن الدواء، ووصف طريق العلاج؛ ولكن صاحب اللواء في مصر لا يسمع ولا
يبصر، ولا يحس بهذا كله ولا يشعر.
عرَّض هذا الانفجاني المتذقح بذكر الفتنة العرابية، ويا ليته كان يعرف حقيقة
الفتنة العرابية، ويعرف المتهورين فيها والناصحين لهم بالاعتدال، هو لا يعرف
ولا يحب أن يعرف، وإذا أحب فليسأل العارفين، وليراجع كتابة الكاتبين، وعند
ذلك تظهر له مزية من عرَّض به إن كان من المنصفين، يظهر له أن هذا الرجل
الكبير العقل البعيد الرأي كان ينتقد أعمال عرابي وتهوره في جريدة الوقائع الرسمية
في القسم الأدبي منها، على حين ترتعد فرائص قصر الخديوية من عرابي، وحين
يرى هذا المنتقد الشجاع أن رئيس النظار ينزل من ديوانه بأمر عرابي مكرهًا،
ويسمع من أتباعه ما يكره، وتظهر له تلك الخطبة التي خطبها هذا الرجل العظيم
في زعماء الثورة العربية عندما ألزموه بحضور مجتمعهم، وأن يقوم فيهم خطيبًا،
ماذا كان موضوع خطبته؟
كان موضوعها بيان تاريخي بأن المعهود في سير الأمم وسنن الاجتماع أن
القيام على الحكومات الاستبدادية، وتقييد سلطانها وإلزامها بالشورى وبالمساواة بين
الرعية إنما يكون من الطبقات الوسطى والدنيا إذا فشا فيهم التعليم الصحيح
والتربية النافعة وصار لهم رأي عام، وأنه لم يعهد في أمة من أمم الأرض أن
الخواص والأغنياء ورجال الحكومة يطلبون مساواتهم بسائر الناس، وإزالة
امتيازاتهم واستئثارهم بالجاه والوظائف ومشاركة الطبقات الدنيا لهم في ذلك، فكيف
حصل في هذه المرة ومن أهل هذا المجتمع؟ (قال) : فهل تغيرت سنة الله في
الخلق، وانقلب سير العالم الإنساني؟ أم بلغت الفضيلة فيكم حدًّا لم يبلغ له أحد من
العالمين؛ حتى رضيتم واخترتم عن روية وبصيرة أن تشاركوا سائر أمتكم في
جاهكم ومجدكم، وتساوون الصعاليك حبًّا بالعدالة والإنسانية؟ أم تسيرون إلى حيث
لا تدرون وتعملون ما لا تعلمون؟ وأمثال هذا الكلام الذي فهمه بعضهم فطفقوا
ينغضون رؤوسهم، وعلا على أفهام الآخرين.
هذا ما قاله الشيخ محمد عبده في أعظم مجتمع لرؤساء العرابيين، ولو كانوا
يعقلون لرجعوا به إلى رشدهم؛ ولكن الأمة لم تكن استعدت لفهم إرشاد هذا الحكيم
في ذلك الوقت، ولما تستعد إلى الآن اللهم إلا نفرًا من فضلاء النابغين هم محل
الرجاء لنهضة المسلمين، ولهذا الأستاذ أن يتمثل بقول ابن الفارض رحمه الله
تعالى:
ونهج سبيلي واضح لمن اهتدى ... ولكنها الأهواء عمّت فأعمت
ومما أضحك الناس من كلام صاحب اللواء نصحه لمفتي الديار المصرية بأن
يترك وظائفه ويشتغل بتأسيس مدرسة وطنية، وقالوا إن هذا القول حجة لأصحاب
المقطم فيما يلقبونه به، سبحان الله: هل كان يخطر في بال عاقل أن صاحب
جريدة يطيع وسواسه في كتابة مثل هذه الكلمة، ويقول لرجل يخدم الأزهر وهو
أكبر مدرسة في العالم، ويرأس جمعية لها عدة مدارس بأن يترك وظائفه وهي
الإفتاء والأزهر والأوقاف والجمعية الخيرية وجمعية إحياء العلوم العربية والشورى
وإصلاح المحاكم ويبني مدرسة أهلية كمدرسة مصطفى كامل ينفق عليها من
الاستجداء والنصب؛ فإنه إذا ترك وظائفه لا يبقى له مال يكفي لنفقات بيته ونفقات
المدرسة.
***
(إصلاح عظيم في مدرسة خليل أغا)
اجتمع مجلس الأوقاف الأعلى في يوم الثلاثاء الماضي برئاسة صاحب السعادة
الفاضل عبد الحليم باشا عاصم واتفق على إنشاء قسم في مدرسة خليل أغا يسمى
القسم الخاص، يعلم فيه التفسير والأخلاق والخطابة ولوازمها، ويكون منه خطباء
وأئمة المساجد في القطر المصري، ويؤخذ بعض تلامذته من نجباء المجاورين في
الأزهر الشريف، وهذا أعظم إصلاح تقوم به هذه المدرسة بدلاً من الأزهر، واتفق
على إنشاء قسم تجهيزي فيها من ابتداء سنة الدراسة وهو شهر أكتوبر الآتي،
وعلى إنشاء قسم صناعي تعلم فيه الصنائع النافعة يستعد له في هذا العام استعدادًا،
ويرجى أن ينشأ فعلاً في العام الآتي حقق الله ذلك، وعلى قبول مائة تلميذ في القسم
الابتدائي من المدرسة بنفقات قليلة زيادة على تلامذتها الذين يُعَلَّمون كلهم مجانًا،
وعلى إعطاء جميع أدوات التعليم وكتبه لفقراء اليتامى من التلامذة، وعلى زيادة
مرتب النبيه الفاضل عزتلو حسن بك صبري مفتش المدرسة ومدير نظامها،
والأستاذ الفاضل الشيخ حسن منصور معلم الدين والعربية فيها وبعض المستخدمين،
جعل الله هذه المدرسة ينبوعًا من ينابيع السعادة لهذه البلاد بهمة القائمين بشؤونها
وعنايتهم، وجزاهم الله تعالى على سعيهم أفضل الجزاء.
***
(إسلام بيت من الفرس في الهند)
كتب إلينا أحد أصدقائنا من علماء الهند الفضلاء بأن بيتًا من بيوت الفرس فيه
ستة نفر تركوا الملة الزرادشتية، وتشرفوا بالدخول في الملة الحنيفية، وقد سبقهم
إلى ذلك أهل بيت آخر من أقاربهم المثرين منذ عامين، وأن بيوتًا أخرى منهم
عازمة على الدخول في الإسلام، ومنها من أسلم ولكنه يكتم إسلامه لأسباب
دنيوية، كل هذا بدون دعوة ولا ترغيب ولا ترهيب؛ وإنما هو محض الاقتناع
بحقية الإسلام، وههنا يشدد صاحبنا النكير على علماء المسلمين لإهمالهم الدعوة
إلى الإسلام، وتربية أمة من طلاب علوم الدين على ذلك، وتعليمهم ما يُحتاج إليه
ولا نذكر ما كتبه لأننا وفينا هذا الموضوع حقه من قبل؛ ولكننا نذكر كلمة قالها
في أغنياء المسلمين المقصرين في خدمة الإسلام وهي:
(ومن أشد ما يتأسف عليه أن الأغنياء منا مع أنهم يبذلون ألوفًا، بل مئات
الألوف في استيفاء اللذات الحيوانية، والمشتهيات الشيطانية، والمغالاة في
الأعراس والوليمات، ويعطون أموالاً كثيرة للقِحاب والغانيات، لا يتحرك فيهم
عرق الحمية، والغيرة الإسلامية، إذا رأوا إنسانًا كان معززًا في قومه مرفه الحال
يُسْلِم، فيموت جوعًا، أو يضطر إلى الشحاذة رغم أنفه، فيجلب رزءًا فوق رزء،
ويجعل الدين منه عرضة التهم، هذا حال المسلمين، والمسيحيون قد يبذلون
لإشاعة دينهم في كل سنة ألوفًا وملايين، ويرسلون الوفود والدعاة إلى أقطار
الأرض من الغرب إلى الشرق، ومن القطب إلى القطب ويتحملون النفقات التي لا
تحصى والمشاق الشديدة على أنهم قلما يحصلون على طائل في ترويج بضاعتهم،
فليت المسلمين ينتبهون للقيام بهذا الواجب الأهم، والتعاون عليه بفضل قلم أو قدم،
وبذل دينار أو درهم، اتقوا النار ولو بشق تمرة و {مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ} (التوبة: ٩١) .
***
(وفاة الطبيب عبد المجيد خان حاذق الملك الدهلوي)
نعت إلينا المكاتب الخصوصية من الهند وفاة هذا الطبيب النطاسي الشهير،
والعلامة الكبير، وعلمنا أن تأثير فقده كان عظيمًا في الممالك الهندية، ورث الفقيد
هذه الصناعة عن أبيه وجده، وبرز فيها على الأقران علمًا وعملاً، ولقَّبته الدولة
البريطانية بحاذق الملك، وكان صدر الجمعية الطبية في دهلي، وكان يعلم الطب
والتشريح ويعطي الطلاب الفائزين في الامتحان ما استحقوه من الإسناد، وممن
رثاه صديقنا العالم الأديب الشيخ أحمد الجيتكر رحمه الله تعالى.
***
(حيل الإفرنج وخيانتهم)
جاءني في العام الماضي رجل فرنسوي، وألح علي بالاشتراك في كتاب
(الدليل المصري) الذي يؤلفونه بالفرنسوية، فأبيت عليه أولاً لعدم حاجتي إلى الدليل
في مصر، وعدم انتفاعي بذكر إدارة المنار فيه، إذ لا غرض لي في معرفة
الإفرنج بها، فألح كثيرًا حتى أجبته فأخذ مني نصف ريال مصري سلفًا، وأعطاني
وصلاً، ثم جاءني بالكتاب بعد طبعه وأخذ نصف ريال آخر تتمة ثمنه، ثم جاءني
بعد مدة وقال إنه اختلف مع بعض المحامين في ذكر اسمه في الكتاب، ويحب أن
يستعيره مدة خمس دقائق ليطلعه على اسمه، فصدقته وأعطيته الكتاب فأخذه ومر
شهر في إثر شهر ولم تنقض الخمس الدقائق؛ لأن دقائق المحتالين لا نهاية لها،
فتعسًا لمصري يثق بهؤلاء الإفرنج ويأتمنهم.
***
(كلمة جريدة مع فضيلة شيخ الأزهر)
كتبت جريدة أسبوعية مقالة تخاطب بها شيخ الأزهر، وتنذره بأنها (تعرف
أن تُسْمِع كلامها في محلات أخرى إذا كان ثمت مشاغل عند فضيلته) وتذكر له أن
وظيفته لا تنحصر في إدارة الأزهر، بل تعطيه حق النظر العام على كل ما يخالف
الشرع من الأمور التي ابتعد عنها القانون، وعلى هذا لا بد لمشايخ الأزهر من
الاطلاع على القوانين ليعرفوا اختصاص وظيفتهم، ثم تذكر إهانة قراء القرآن
الكريم له بالتغني به والاستجداء بقراءته حتى في الطرق، وتقول في إثر ذلك
(فإغضاء فضيلتكم على عدم منع هاتيك المخازي المشوشة لوجه الدين مما تقوي
ححة خصومكم، ولا تمكن جريدة مثل هذه من الدفاع الواجب عليها بالنسبة لعالم
عظيم مثل فضيلتكم) وما كنا نعلم قبل هذا أن لشيخ الأزهر خصومًا، وأنه اتخذ
هذه الجريدة مدافعة عنه بسببهم أو يحتاج إليها لذلك؛ ولكننا علمنا أن بعض المشايخ
القضاة الشرعيين نشر فيها نبذة بتوقيع أحد تلامذته يرد فيها على مجلة انتقدت عليه
ويعظِّم نفسه حتى حلاها بلقب الإمام، وانتقص سائر علماء الأزهر الكرام.
ثم قالت الجريدة (يلزم فضيلة الأستاذ أن يعترف معنا جهارًا بأن سيرة
الأزهريين ليست مقبولة ولا ممدوحة) وذكر أن طلاب الأزهر الذين يمثلون أحكام
الشرع الإسلامي، ويكونون علماء الغد (يراهم الإنسان في الجهات المسترذلة
الممقوتة يتعاطون المسكرات، ويصبون على المسلمين بأزيائهم قبيح اللعنات) إلى
غير ذلك من الطعن الفاحش، ثم ذكرت أنه طالما دافعت عن مركز الشيخ وقالت
لكنها لا يمكنها الصبر على ما تشاهد من طلبة الأزهر وعلمائه ومستخدميه، وقد
صبرت مدة طويلة أملاً في أن فضيلتكم تأمرون بإزالة المنكرات الحائمة حول الدين
الإسلامي؛ ولكنها لما لم تجد انتباهًا انتهزت فرصة) ... إلخ.

(المنار)
هذا بعض ما جاء في تلك الجريدة وقالت إنه بعض من كل، والناظر فيه
يتوهم أن حانات الخمر ومواخير الفحش أمست محشوة بعلماء الأزهر
وطلابه ومستخدميه، وحاش لله أن يكون هذا صحيحًا، نعم إن صاحب تلك
الجريدة أعلم منا بذلك؛ لأن عبارته تدل على أنه رأى بعينه، ونحن لا نعرف تلك
المواضع النجسة ولا نراها؛ ولكننا سمعنا أن شيخًا واحدًا من علماء الأزهر يختلف
إليها، وأنه مع ذلك لا يأتي فاحشة إلا بتأويل وتحليل، ومن ذلك أن يعقد نكاحه
على بعض البغايا بشهادة بعض القوَّادين، وهذا الشذوذ من رجل واحد لا يصح أن
يحمل إطلاق القول في الطعن بالعلماء، ورميهم بما رمتهم به تلك الجريدة، وأما
المجاورون فلا شك أن من لم يترب في بيته تربية إسلامية؛ فإن الأزهر لا يفيده
في التربية شيئًا، لا سيما في أول الأمر؛ لأنه ليس في الجامع إلا قراءة هذه الكتب
المعروفة في النحو والفقه وغيرهما، وليس فيه ملاحظة الأخلاق والآداب، ولا
الحمل على العمل بالعلم، ومع هذا نرى طلاب الأزهر أبعد أصناف الناس الذين
يقيمون في هذه المدينة الفاسقة عن السكر والفحش؛ ولذلك أسباب منها كثرة عنائهم
بالاشتغال لصعوبة طريقة التعليم وكثرة الدروس ومنها الفقر المدقع، وأكثر ما ينتقد
عليهم الوساخة ومهانة النفس وجفاء الطبع في الكثيرين أو الأكثرين، فإذا شذ من
هؤلاء الألوف من المجاورين نفر قليل فلا يُوجِب شذوذهم هذا التشهير، وقد
صدقت تلك الجريدة في لومها شيخ الجامع على التغاضي عن البحث عن أخلاق
الطلبة وقولها مخاطبة له: (وتزيد غرابتنا عندما نرى بعض العلماء يشاركون
الطلبة في كثير من الأمور المخلة بشرف العلم، كترددهم على بيوت الذوات،
وتملقهم البارد لكل من يظنون فيه الغنى، فهل ترى فضيلتكم أن سكوتكم عن القيام
بما يُطلب منكم دينًا وعقلاً ممدوح من الناس) .
وكنا نود أن هذه النصيحة أُرسلت إلى فضيلة الأستاذ في كتاب مخصوص،
أو ألقيت إليه شفاهًا، وإذا مر زمن ولم ير لها أثر فلصاحب الجريدة أن ينشر ذلك
من غير مبالغة ولا إغراق، وليعلم صاحب هذه الجريدة أن ذلك الأستاذ الذي كان
يطريه بالمدح أولاً، ثم صار يخوض فيه بإغراء المغرورين هو الذي لا ينفكّ
ساعيًا في حفظ كرامة أهل الأزهر، ومنعهم من كل ما يَشين؛ ولكن بعض المشايخ
يعارض الإصلاح بحجة أن هذا تحكم بالناس وسيطرة عليهم، أي أن التربية
تعارض الحرية فلا حاجة إليها.
وقد كتبنا ما كتبنا آسفين؛ ولكن لم نر مَنْدُوحة عن المُدافَعة عن هذا المكان
الشريف الذي نود أن يكون في أعلى الدرجات، وكون الطعن مبالغًا فيه لا يمنع
مولانا شيخ الجامع أن يجتهد في أن لا يجعل لأحد مجالاً للكلام، وتفويق السهام،
بل ذلك مقتضٍ للاجتهاد، والله بصير بالعباد.
***
(كلمة أخرى عن فضيلة شيخ الأزهر)
ينشر المؤيد مقالات في الناشئة الإسلامية، وكان منها مقالة للشيخ عبد المجيد
صالح العدوي من نبهاء مجاوري الأزهر، ذكر فيها خلاصة أقوال كثير من الكتاب،
وكانت في لفظها ومعناها من أحسن ما كتب في هذا الباب، وكان يظن أنه يكافأ
عليها من شيوخه بالتحبيذ؛ لأنه مما ينشِّط التلميذ؛ ولكن أخبرنا غير واحد أن
مولانا شيخ الجامع أمر بإحضاره، فجاء والشيخ في ملأ من الشيوخ فأمره بأن يقرأ
المقالة فقرأها، وطفق الشيخ بنفسه يناقشه فيها، وأول ما أنكره عليه وصفه الأمة
الإسلامية بالتأخر والانحطاط أي بالنسبة إلى ما كانت عليه وما عليه الأمم الأوربية
الآن، وقالوا إن مولانا الشيخ احتج على تفنيده بقوله: كيف يكون الإسلام متأخرًا
وهؤلاء المؤذّنون يؤذنون على المنارات جهرًا ولا يرميهم أحد بالحجارة، وها نحن
نصلي ونصوم ولا يعارضنا أحد، وإذا صح هذا القول فلا بد لنا أن نحمله على
قصد الاختبار ليعلم هل يستطيع ذلك المجاور أن يبين حقيقة ضعف الأمة الإسلامية،
وهذا هو اللائق بمقام الأستاذ ومنصبه.
قالوا: وأنكر عليه أيضًا الكلام في السياسة، ونقول: إنه لم يذكر في السياسة
شيئًا ينتقد إلا مسألة عقد المؤتمر الإسلامي في الآستانة الذي أكثر الكلام فيه بعض
الكتاب عن غير بصيرة، وأما حثه دولة مراكش على الاستعانة بالدولة العلية على
تحسين شؤونها، وإصلاح أحوالها، فلا نخال الأستاذ ينكره، وكنا كتبنا هذا الرأي
في بعض أعداد السنة الأولى من المنار فصادف استحسانًا، إلا أن بعض كبار
الموظفين من الأتراك كتب إلينا من أزمير بأننا غششنا حكومة مراكش بذلك، ولا
نخال الأستاذ على هذا الرأي، وقالوا إنه أنكر غير ذلك ما لا حاجة إلى ذكره
وتأويله، وقالوا إنه أمر بقطع جراية الشيخ عبد المجيد، ثم لم يرض بردها إليه إلا
بعد أن أخذ العهد عليه كتابة بأن لا يعود إلى مثل هذه الكتابة في الجرائد، وغاية
هذا التضييق أن لا يخرج من الأزهر من يحسن الكتابة والإنشاء ولا يستقيم مع هذا
تأويل.