للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأخبار التاريخية

(سمو الخديو المعظم في الآستانة العلية)
لقي مولانا الخديو المعظم من حفاوة مولانا السلطان الأعظم وإقباله في هذه
السنة فوق ما عهد وما عهد الناس من معاملة السلاطين للأمراء والخديويين، من
ذلك أنه كان يجعله عن يمينه والصدر الأعظم عن يساره حتى على الموائد الرسمية
ومنه أنه ركب معه غير مرة للتنزه وللاطلاع على بعض المعامل وعلى الإسطبل
العامر، ومنه أنه حباه ببعض الهدايا، ومنه أنه أهدى مركبتين (عربتين) مع
خيولهما لأنجاله، إلى غير ذلك من الإتحاف والانعطاف الذي ابتهج به المصريون
وقرَّت لأجله العيون.
***
(قدوم مفتي أفندي الديار المصرية وحفاوة المصريين به)
جاء الأستاذ الإسكندرية في الموعد الذي ذكرناه في الجزء الماضي، فاستقبله
في الباخرة علماؤها ووجهاؤها وجاء القاهرة في ناشئة ليلة الثلاثاء، وكان في
انتظاره على رصيف محطة السكة الحديدية الجماهير من العلماء وكبار الموظفين
والقضاة والوجهاء، وفي مقدمتهم أصحاب السعادة عبد الحليم باشا ناظر الأوقاف،
وبليغ باشا ناظر الدائرة السنية، وكانت كثرة عمائم الأزهريين تستوقف الطرف -
كما قال المقطم - وما أشرقت الشمس في اليوم التالي على عين شمس إلا وكانت
مورد جماهير المهنئين من العلماء والوجهاء، واستمر ورود الوفود بضعة أيام،
وكان من مسهلات الزيارة عليهم أن مصلحة السكة الحديدية زادت عدد القطارات
التي بين القاهرة والمرج من يوم قدومه حتى لا تمر ساعة إلا ويسافر فيها قطاران
أو ثلاثة، وجاء كثيرون من البلاد الأخرى إلى مصر لأجل زيارته، واكتفى
كثيرون بإرسال الرسائل البرقية وقليلون بالرسائل البريدية، ولم يُعهد مثل هذا
الاحتفال والحفاوة في مصر لعالم، ولا لأمير دون أمير البلاد الأعظم أيده الله تعالى
وأيد به العلم وأهله.
وقد تبرع السري الفاضل محمد بك أباظة بخمسة جنيهات لإدارة المنار شكرًا
لله تعالى على قدوم الأستاذ، وجعلها عادة مستمرة، وهي قيمة الاشتراك بعشر نسخ
توزعها الإدارة على مستحقيها مجانًا.
***
(كلمة المنار عن شيخ الأزهر)
ذكرنا في الجزء الماضي أن مولانا الحبر الأعظم شيخ الجامع الأزهر ناقش
المجاور الشيخ عبد المجيد الحساب على مقالته التي نُشرت بتوقيعه في جريدة
المؤيد، وأنكر عليه وصفه الأمة الإسلامية بالضعف والتأخر محتجًّا بأنهم يؤذنون
ولا يرميهم أحد بالحجارة، وقد أوَّلنا هذه الحجة الداحضة بأنها إذا صح صدورها
من الأستاذ الشيخ الجامع فلا بد أن يكون مراده اختبار الشيخ عبد المجيد صالح
وسبر غوره في فهم ما نسب إليه، ثم تشرفنا بمقابلة شيخ الجامع وأخبرنا بأن الأمر
كما قال المنار، وأنه ظهر للشيخ بالاختبار أن الشيخ عبد المجيد لم يحسن قراءة
المقالة المنسوبة إليه ولم يفهمها، وقد كانت النبذة التي كتبناها في هذا الموضوع
طويلة ذكرنا فيها كل ما بلغنا من قول مولانا الشيخ لذلك المجاور، وأوَّلنا ما ينتقد
منه ثم حذف منه ما لو بقي لما سلَّم المطلعون عليه بالتأويل بإرادة الاختبار، وإذ
تحققنا الآن من الشيخ نفسه ذلك فلا وجه للذين لا يزالون يخوضون في المسألة، لا
سيما إنكار مولانا الشيخ على المجاور نقله عن الفيلسوف أرنست رينان مدح الإسلام
وقوله له: أما وجدت عالمًا مسلمًا تنقل عنه، وهلا نقلت عن الإمام الغزالي.
***
(رمي مؤذن بالحجارة وتهديده بالرصاص)
بعدما نشرنا ما تقدم في الجزء الماضي بأيام اتفق أن مؤذنًا كان يؤذن على
المنارة في جهة تسمى قنطرة الدكة فأطلَّ رجل نمساوي من منظرة في بيته وأمره
بالسكوت، فلم يسمع له المؤذن ومضى في أذانه، فطفق النمساوي يرميه بالحجارة
ويهدده بالقتل بالرصاص إذا هو لم يكف عن إتمام الأذان، فخاف المؤذن ونزل قبل
إتمام الأذان وبلَّغ الشرطة ما وقع.
نشرت الجرائد اليومية الخبر فاستاء الناس وامتعضوا وفزع بعض أهل الغيرة
إلى حضرة شيخ الجامع وقصُّوا عليه القصة، فحوقل واسترجع فرغَّبوا إليه أن
يكتب إلى الحكومة وألحوا عليه حتى وعدهم وكان وعده مفعولاً.
***
(صورة ما كتبه الشيخ إلى نظارة الداخلية)
وكيل الداخلية سعادتلو أفندم
أظن أن سعادتكم اطلعتم على ما جاء في جريدة المقطم بعددها الصادر في يوم
الجمعة الفائت وتناقلته الجرائد عنها، ألا وهو ما وقع من ذلك الرجل النمسوي
لمؤذن مسجد قنطرة الدكة عندما شرع في أذان العشاء من أمره بالكف عن الأذان،
وشتمه له ورميه إياه بالحجارة، ولمَّا لم يثنه ذلك كله عن إتمام الأذان تهدده بالرمي
بالرصاص فخاف ونزل من غير أن يتمه، وتوجه في الحال إلى البوليس فأبلغه
الحادثة إلى آخر ما جاء في تلك الجريدة، وحيث ما أتاه هذا النمسوي يُعَدُّ إهانة
للدين، وانتهاكًا لحرمته، ولم نسمع قبل اليوم بأن مسلمًا عارض غيره أو منعه من
إقامة شعائر الدين حتى يقال إنه اقتدى به، ولا يخفى أن كل متدين بدين يغار عليه
مهما كان معتقده فيرتكب صعاب الأمور، وهو عالم بها انتصارًا لدينه خصوصًا
والبلاد إسلامية، ووقوع مثل ذلك فيها يوغر الصدور، فنحوِّل أنظار سعادتكم إلى
تلافي هذا الأمر بمعاقبة المعتدي بواسطة قنصليته بما يكون رادعًا له وزاجرًا لغيره
ومزيلاً لما كمن في الصدور من جراء هذا الحادث المؤلم أولى من الترك
والتغاضي، ووقوع ما لا تحمد عاقبته، ثم تفضلوا بإخطارنا بما يتم أفندم.
(حاشية)
وللتثبت من هذا الأمر استدعينا مؤذن ذلك المسجد المدعو الشيخ خليل إبراهيم
وسألناه عما وقع، فأوضح لنا ذلك مفصلاً من أول الحادثة إلى آخرها في ورقة
مرفقة بهذا، فنكرر أيضًا إعارة هذه المسألة جانب عنايتكم أفندم.
***
(الانتقاد على مكتوب شيخ الجامع)
انتقد العوام والخواص على اختيار شيخ الجامع جريدة المقطم لنشر المكتوب،
وعدم نشره في جريدة المؤيد التي هي أعمُّ انتشارًا، وتوهموا أن لمولانا الشيخ
ضلعًا مع المقطم وموافقة لسياسته، وهو وهم باطل لأننا نعلم حق العلم أنه بعيد من
السياسة ومذاهبها، فلا هو موافق لسياسة المقطم، ولا هو مخالف لسياسة المؤيد،
وقال بعض الأذكياء: إن مولانا الشيخ استاء مما كتبه المؤيد في المسألة بتوقيع
(م. ح) فلم يرسل إليه صورة المكتوب لأجل ذلك.
ولكن مقام الشيخ أجلَّ وأعلى من تحكيم الأمور الشخصية في المصالح
العمومية، وينبغي أن نلتمس له عذرًا على كل حال حتى نقف على العلة الحقيقية.
وانتقد كثير من الخواص على أسلوب المكتوب وعبارته وبعض مفرداته
وتراكيبه التي لا تصح في اللغة، أما أسلوبه فهو أسلوب كتابة الدواوين لا أسلوب
الكتاب البلغاء العارفين بفنون اللغة والمحصلين ملكتها، وقد أجبنا بعض المنتقدين
بأن المتبادر أن المكتوب ليس من كتابة الشيخ وإنشائه، ولا من إملائه، وإنما هو
من إنشاء كاتب مجلس إدارة الأزهر الذي يعد من دواوين الحكومة، فقالوا أولاً: لا
يصح أن يقبل شيخ الجامع مثل هذا الكاتب في إدارته ويجعله ترجمانه، بل قلمه
ولسانه، وثانيًا: إذا جاز أن يجيز ويمضي شيخ الأزهر الذي هو مهد اللغة وينبوع
معارفها مكتوبًا غير بليغ ولا فصيح، فلا يجوز أن يجيز الخطأ والغلط ويقره
ويرضى بأن ينشر منسوبًا إليه.
وإننا نرى من الفائدة ذكر شيء مما انتقدوه ليعرف المنصف والمتحامل، فمن
ذلك قوله: (أظن أن سعادتكم اطلعتم) قالوا: مقتضى المطابقة بين اسم (أن)
وخبرها أن يقال (اطَّلَعَتْ) لأن الإسناد إلى ضمير مؤنث وهو السعادة، ومنه قوله:
(وحيث ما أتاه هذا النمسوي ... إلخ) قالوا: إن (حيث) ظرف مكان، وقد ردَّ
العلماء على من زعم منهم أنها تأتي للتعليل، وظاهر السياق أنها هنا للشرط ولا
يصح، وقالوا إننا لا نرى لهذا القول إعرابًا صحيحًا، ومنه قوله: (مهما كان
معتقده) قالوا: إن استعمال (مهما) ههنا غير صحيح، ومنه قوله (خصوصًا
والبلاد إسلامية) قالوا: إنه استعمال غير عربي وإنه لا يستقيم إعرابه، ومنه قوله:
(ثم تفضلوا بإخطارنا) قالوا: لا يعرف في اللغة أخطره بكذا، بمعنى: أعلمه به،
وأقرب معانيها إلى ما نحن فيه قولهم: أخطر الله الشيء ببالي، أي: جعلني أتذكره
بعد نسيانه ولا يصح هنا، وقالوا: إن فيه أيضًا عطف الإنشاء على الخبر بـ (ثم)
ومنه قوله في الحاشية (وللتثبت من هذا الأمر) قالوا: ورد في اللغة: تثبت في
الأمر: إذا تأنَّى فيه ولم يَرِد: تثبت منه، ومنه قوله (المدعو الشيخ خليل) قالوا:
وكان الصواب أن يقول (خليلاً) بالنصب، ومنه قوله في الحاشية: (ورقة مرفقة
بهذا) قالوا: إن لفظ (مرفقة) لا يصح له معنى هنا، ومنه قوله في الحاشية
(فنكرر أيضًا إعارة هذه المسألة لجانب العناية) وقالوا: إن أهل الأزهر لا يتركون
الحواشي ولا في مخاطبة الحكومة.
هذا، وإن لهم انتقادات أخرى قالوا: إنها دون ما تقدم، منها قوله (ولمَّا لم
يثنه ذلك كله عن إتمام الأذان) قالوا: كان الصواب أن يقول عن الاسترسال أو
المضي في الأذان لأنه لم يتمه، وقد كُتبت العبارة بعد العلم بعدم الإتمام، ومنها لفظ
البوليس ولفظ القنصلية، قالوا: كان اللائق بمقام المشيخة أن لا يذكر في كتابتها
لفظ أعجمي إلا إذا لم يكن في اللغة ما يردفه ويحل محله، ومنها قوله: (فنحوِّل
أنظار سعادتكم) قالوا: إن للمخاطب نظرًا واحدًا، ومنها قوله: (أولى من الترك
والتغاضي) قالوا إن إعراب هذه العبارة يحتاج إلى تكلف وإن الأولية لا معنى لها،
بل هي مخلة بالمراد، ومنها قوله في التمهيد لتحويل أنظار وكيل الداخلية (ولا
يخفى أن كل متدين بدين يغار عليه مهما كان معتقده) قالوا: إن الذي يفهمه الناس
من هذه الجملة على ما فيها أن الإنسان يغار على دينه وإن كان باطلاً وليس من
اللائق أن يكون هذا تمهيدًا من مشيخة الأزهر الشريف، بل غلا بعضهم فذكر
الفتيل والنقير كقوله: (وكيل الداخلية سعادتلو أفندم) وقال إن الأولى والأليق بمقام
المشيخة أن يُذْكَر اللقب الرسمي بصيغة عربية تدل عليه كقوله (إلى صاحب
السعادة وكيل الداخلية) فقلنا له: إن هذا لقب رسمي، فقال إن اللفظ الرسمي
التركي هو (داخلية وكيلي سعادتلو أفندم) فالعبارة ليست رسمية ولا عربية.
وقال هذا الفقير: إن الأولى بمقام مشيخة الأزهر أن يتبع الشيخ السُّنة في كل
ما يكتب، لا سيما الأمور ذات البال التي يُهتم بها شرعًا، فكان ينبغي أن يبتدأ
المكتوب بالبسملة والحمدلة والصلاة والسلام على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم.
ويعلم الله أنني أوَّلت أمام جماعة من المنتقدين بعض ما انتقدوه حتى بالتمحل
والتكلف، فقالوا: لا نقبل التمحل النحوي البعيد والأقوال الشاذة والضعيفة، وإنما
نقبل أجوبة تثبتها الشواهد العربية؛ فإن هذا الكلام لا يرتقي من يجيزه إلى أن
يكون من المتفننين كما قال شيخ الإسلام في علماء العصر، ولا من الحفاظ كما قال
فيهم مفتي الديار المصرية، ورأيت أن الجواب الذي يبرئ مولانا شيخ الجامع
الأزهر الشريف من هذا كله، هو احتمال أن يكون أمر كاتب إدارته بأن يكتب إلى
سعادة وكيل الداخلية مكتوبًا في موضوع كذا، وأنه أمضاه ووقع عليه ولم يقرأه
لحسن ظنه وسلامة قلبه، والمنار مستعد لنشر ما يَرِد من قِبَل مولانا الشيخ وغيره
من العلماء في الرد على المنتقدين.
***
(التعصب الذميم والتساهل الجميل)
إن آداب إخواننا السوريين في البرازيل لَمما يُفتخر به، وإن جريدة المناظر
لهي مجْلَى ذلك الجمال، ومظهر ما ثم من الكمال، فقد علمنا منها أن أولئك
الفضلاء قد ألقوا أوزار التعصب الذميم عن ظهورهم، ونبذوا التقاليد التي كانت
تحملهم على الغلو في الدين عن غير بصيرة حتى إنه ليتراءى للناظر فيها أنهم
تركوا الدين؛ وإنما تركوا تلك التقاليد الضارة، وأخذوا ما في الدين من الآداب
النافعة، ومن آيات ذلك ما قرأناه في العدد ١٩٢ من هذه الجريدة لمكاتبها في
مناوس عاصمة ولاية الأمازون قال:
(في هذه العاصمة بضعة عشر مواطنًا من المسلمين، وفيهم غير واحد ممن
هذَّبه العلم، فلم يفرقوا بعد ارتقائهم بين من دان بالإسلام، ومن دان بسواه من
الأديان - أي لأن الإسلام يحكم بأن الناس في الحقوق سواء، فلا يهضم حق أحد
لأجل الدين ولا يعطى أحد غير حقه لأجل الدين - وفيها أيضًا مئات من المواطنين
النصارى بينهم رعاع لا يزال التعصب الأعمى يقود قلوبهم العمياء، وقد أراد أحد
هؤلاء الآخرين بغير داعٍ سوى التعصب أن يعتدي على إخواننا المسلمين ومالأه
على هذه الإرادة بعض أمثاله، فحدث غير مشاجرة بين الفريقين كان فيها المسلمون
ملتزمين جانب الدفاع، فساء هذا الصنيع أحرار الجالية منا، واتفقوا على أن
يناصروا المواطنين المسلمين على المعتدين، وفعلوا فعلم المتعصبون أن الزمان
ليس زمان انتصار المسلم للمسلم والمسيحي للمسيحي؛ ولكنه عصر اجتماع
المتهذبين المرتقين على مناوأة المتعصب من أي الأديان والطوائف كان، وعادوا
من ثم عن اعتدائهم، ولقد ظن بعض المعتدين أن الحكومة لا تسيء معاملتهم؛
لأنهم نصارى في بلاد نصرانية فعلموا عندما اقتصت منهم أنها لا تعرف المرء
بدينه، وهي كما يعلم القارئ جمهورية منفصلة عن الكنيسة تمام الانفصال) اهـ.
***
(البطريقخانة وأحكامها)
خاضت الجرائد المصرية هذه الأيام في بطريقخانة القبط، وما تصدره من
الأحكام التي يسمونها شخصية؛ وسبب الخوض أن البطريقخانة حكمت بالحَجْر
على قبطي، وجعلت امرأته قيمة عليه، فأبى الخضوع لحكمها وهي عاجزة عن
التنفيذ، ويرى أصحاب الجرائد القبطية أنه يجب على الحكومة تنفيذ أحكام
البطريقخانة القبطية دون غيرها من أمثالها؛ لأن لها امتيازًا وفضلاً على غيرها.
إذا كانوا يقولون: إن هذا الامتياز شرعي إسلامي، فما أحكام الذميين في
الشريعة بمجهولة ولا نعرف إمامًا ولا عالمًا قال بأن لهم أن يحكموا أنفسهم، وعلينا
أن ننفذ أحكامهم؛ وإنما اقتضى تساهل الشريعة الحكم بعدم التعرض لهم إذا تراضوا
فيما بينهم؛ ولكنهم إذا تحاكموا إلينا نحكم بينهم بشريعتنا، فالحكم بطريقهم وغيره
من رؤسائهم كحكم المحكَّم الذي يرتضيه الخصمان، وإذا قالوا: إنه امتياز مدني
فليدلونا على القانون المدني الذي أثبته. إن حكم القانون المدني بأن تكون قضاة
المحاكم المدنية من سكان البلاد على اختلاف أديانهم يقتضي أن لا يكون
للبطريقخانة حكم في شيء مما تحكم به هذه المحاكم، إلا إن كانت طائفة القبط
الأرثوذكس تطلب من الحكومة إخراج الموظفين من أبنائها من جميع المحاكم
والدواوين التي تفتات البطريقخانة الآن عليها بالأحكام والإذن لها بأن تنشئ محاكم
دينية محضة مستقلة بنفسها، فتكون حكومة ثانية؛ لأنهم لا يبيحون للحكومة أن
يكون لها أدنى مراقبة ولا تفتيش، بل ولا اطلاع على أحكام البطريقخانة وإنما
يوجبون عليها تنفيذ الأحكام فقط على ما تنوقل عنهم.
لو أن إجابة هذا الطلب في استطاعة الحكومة المصرية ومن خصائصها لما
كان لها أن تمنحه لهذه الطائفة؛ لأنه ينافي المساواة والعدل بين الرعية ويقيم عليها
قيامة الطوائف الأخرى.
وأقوى شيء يحتج به القبط حسن العهد بينهم وبين المسلمين عند الفتح
الإسلامي، ثم ما منحه السلطان محمد الفاتح للروم الأرثوذكس وجرى عليه السلاطين
من بعده.
ونقول: إن حسن العهد لا يستلزم أن يكون لهم من الحقوق ما يخالف الشريعة،
وحسبهم منه أن يكونوا أحرارًا في شؤونهم الدينية، وأن يبرهم المسلمون ويقسطوا
إليهم، على أن الأحكام في مصر قد صارت مدنية لا شرعية، وشارك القبط فيها
المسلمين كما تقدم، وهذا امتياز لا يعلوه امتياز، وليس من الإنصاف أن يُطلب
معه امتياز آخر، الحكومة إسلامية وقد تركت شريعتها بالنسبة للأحكام المدنية
والحدود والعقوبات الجنائية، واستبدلت بها قوانين أخرى نسبتها إلى دينها كنسبتها
إلى الديانة القبطية، وجعلت الحاكمين بها من أهل دينها ومن غيرهم من غير
التفات إلى الدين، ولم تبق هذه القوانين لشريعة الحكومة صاحبة البلاد إلا أحكامًا
قليلة كالأوقاف والمواريث والحجر وغير ذلك من الأحكام التي يسمونها شخصية،
فهل يليق بهذه الطائفة التي كان سلفها أحسن عهدًا مع المسلمين من سائر الطوائف
أن يحسدوهم على هذه البقية وينازعوهم فيها، ويخترعوا لأنفسهم أحكامًا لا
يقتضيها دينهم؛ لأنه إنما يأمرهم بالخضوع لكل حاكم يحكمهم؟
وأما الفرمانات السلطانية للروم الأرثوذكس، فهو على كونه لا يشمل القبط
غير مقتنَع به منهم، بل يطلبون الزيادة ومنها الحكم بالحجر، فهو ليس مما نطقت
به الامتيازات، وقد علموا أن المحكمة المختلطة لم تعتبر أن القبط في الامتيازات
الشاهانية كالأروام؛ ولكن القوم يطمعون بما هو أعلى مما يطلبون، وما جاء الوقت
ولكنهم قوم يعجلون.
***
(الإنعام السلطاني على صاحب المؤيد)
علمنا من أنباء الآستانة الخصوصية أن مولانا السلطان المعظم أيَّد الله دولته
أنعم على زميلنا الفاضل الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد الأغر بالرتبة الأولى من
الصنف الثاني، وبالوسام المجيدي من الدرجة الثانية، وهو إنعام صادف أهله وحل
محله، بل أبطأ عن وقته، والأمور كما يقولون مرهونة بأوقاتها، فقد قلنا في
المنار غير مرة أنه لم يخدم الدولة العلية والسلطان في مصر على الوجه الذي يحبه
السلطان ويرضاه مثل المؤيد، بل هو الذي علَّق الآمال بالدولة، وأنطق الألسن
باللهج بمدح السلطان أيده الله تعالى وسدده.
نخاطب بعد اليوم صديقنا باللقب الرسمي (سعادتلو أفندم) ولكننا لا ننزع
عنه لقب الشيخ فإنه أعذب الألقاب وأحلاها، وحلية العلم أشرف الحلى وأعلاها.
***
(غلام نجيب)
حدَّثنا الأستاذ مفتي الديار المصرية أنه رأى في السفينة التي ركبها من
تريسته إلى الإسكندرية غلامًا روسيًّا لا يزيد سنه على ثماني سنين يتعلم في بعض
مدارس أوربا، وقد ذُكِرَ للأستاذ من ذكائه ونجابته أنه يحسن الكلام بالفرنسوية
والألمانية وليس له في المدرسة إلا سنة واحدة، فكلَّمه الأستاذ بالفرنسوية، فإذا هو
كما قالوا يحسنها، وإننا نذكر بعض الحديث.
الأستاذ: أين تقصد؟ قال الغلام: أقصد مصر لمشاهدة الأهرام.
الأستاذ: إن في مصر آثارًا كثيرة غير الأهرام ينبغي أن تُرى فلماذا خصصت
الأهرام بالذكر؟
الغلام: إنني خصصت الأهرام لأنني قرأت عنها كثيرًا، ولا يستفيد الإنسان
فائدة تامة إلا من مشاهدة ما قرأ عنه؛ لأنه هو الذي يمكن أن يلاحظ دقائقه ويعرف
خصائصه، وإنني أعرف أن للمصريين آثارًا كثيرة غير الأهرام لأنني قرأت شيئًا
من تاريخهم وعرفت ملوكهم وعاداتهم.
الأستاذ: اذكر لي أشهر ملوكهم، وأشهر ما يُؤثر عنهم.
الغلام: ذكر أسماء أشهر الفراعنة، وأن أشهر ما يُؤثر عنهم تحنيط الموتى.
الأستاذ: ما سببه؟
الغلام: سببه الاعتقاد الديني فإنهم كانوا يعتقدون أن للأرواح حياة بعد الموت
ولا بد أن تكون في أجساد، وأن أجسادها الأولى أولى بها.
ثم سأله مصطفى بك كامل وكان حاضرًا: هل تحب فرنسا؟ فلم يلق بالاً لهذا
السؤال، حتى قال له: إن بين فرنسا وبين دولتكم ولاء وحلافًا، فقال: نعم ولكنني لا
أحب الجمهورية، قال البيك: عجبًا لشاب مثلك كيف لا يفضل الجمهورية على
الملكية، وهو يعلم أن الملك يأخذ المُلك بالإرث عن غير استحقاق، وأن حكومتك
لو كانت جمهورية لجاز أن تصير يومًا ما رئيسها، فقال الغلام بحماس: إن
الجمهورية عرضة للثورة دائمًا؛ وإنها تنزع من حياة العلم وتختلس من عمره
شهرين على الأقل من كل سنة يكون فيها الانتخاب؛ لأن الأمة كلها تكون مشغولة
به، أما الملكية فكما ذكرت وأنا أفضلها إذا جروا فيها على رأي بطرس الأكبر فإنه
فرض أن ينتخب الملك من يكون خلفًا له لأنه أدرى بالاختبار.
البيك: إن حكومتكم الآن ليست على ما قال فأنت إذن ضد لها؟
الغلام: لست ضدًّا لها؛ ولكن لو صار الأمر إلي لأرجعتها إلى رأيه.
البيك: هل تحب القيصر؟
الغلام: ما عرفته فأحبه؛ ولكنني أحترمه لأنني أسمع عنه أنه عادل....