للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


رسالة لصاحب الاكتشاف في الهيئة الأرضية

تزييف ما ذُكر في بعض كتب الهيئة واشتهر عند الكثير من ذويها من صحة
كون اليوم الواحد جمعةً عند شخص وخميسًاعند آخر وسبتًا عند ثالث، ثم إرجاع ما
ذكر دليلاً على ما ادعيناه في رسالتنا الاكتشافية الذي نشرتموه في العدد التاسع من
جريدتكم الحكيمة تحت عنوان (اكتشاف) .
سمعت أن بعض رجال هذا الفن يزعم صحة المسألة المذكورة، وأنها عين ما
ادعيت به رسالتي، ثم بعد أن نشرتم ما نشرتم من تلك الرسالة على وجه لا يبقى
معه لأحد عذر في السكوت - تبين لي أن مَن يزعم ذلك من أولئك كثيرون؛ حيث
لم يحرر أحد عما نشرتموه شيئًا، لا بيانًا ولا ردًّا، وليس لذلك من سبب في الغالب
سوى ما ذكرنا، (مع أن بين هذه المسألة وبين ما أدعيه فروقًا كبيرة نذكرها في
آخر المقالة) ، لكن ذلك إنما يصلح سببًا في حق المتوسطين بهذا الفن، أما
المبرَزون فيه، فلا لبداهة بطلان هذه المسألة عندهم. وأما إمساكهم عن الكلام فلا
أقدر على تعيين سببه، وعسى أن يتكلموا في هذه الكرّة؛ لذلك أحببت أن أزف
لأسماع قراء (منار) الهداية الكلام على بطلان تلك المسألة، وبيان منشأ الخطأ فيها
وكلامي على ذلك - وإن كان مقصودًا به تنبيه أمثاله من الضعفاء بهذا الفن،
وبمقدار ما تناله أيدي أفكارهم - لكنه مع ذلك يهم رؤساء هذا الفن الاطلاع عليه،
حيث انتزعت من ذلك دليلاً على دعواي التي سبق نشرها، التي هي من الأهمية
بمكان؛ لأنها ستكون الدليل والمرشد الوحيد على تلك النقطة، التي يجب أن يتفق
العموم على اعتبارها مبدأ الطول؛ لذلك أرجو من أساتذة هذا الفن أن ينظروا كلامي
الآتي بعين الناقد البصير، لاحتمال أن أكون مخطئًا أو واهمًا، ثم يذكروا ملاحظاتهم
عليه من تصويب أو تخطئة؛ فإنه أحسن ما أهدانيه المرء خطئي وعيوبي.
وقبل الشروع في الكلام على ما ذكرنا نذكر الأصل الذي تفرعت عليه تلك
المسألة، إفادة لمَن لا يعلم ذلك، وتوصلاً لبيان منشأ الخطأ فيها، وهو: لو تفرق
شخصان من موضع معين بقصد الدوران حول الأرض، فسار أحدهما نحو الشرق،
والآخر نحو الغرب، وأقام آخر ثالث حتى عاد إليه المُغرب (السائر نحو الغرب)
من الشرق، والمُشرق (السائر نحو الشرق) من الغرب، وفرض عودهما إليه
في وقت واحد، كما كان تفرقهما عنه كذلك - لكانت الأيام التي عدَّها المغرب في
مدة الدورة أنقص من أيام المقيم بواحد، وأيام المشرق أزيد بواحد، فلو كانت مدة
الدورة عند المقيم (٨٠) يومًا لكانت في حساب المغرب (٧٩) ، وفي حساب
المشرق (٨١) ، وهذه المسألة صحيحة، وهي من لوازم كروية الأرض؛ لأن من
يسير نحو الغرب يصير يومه أكثر من ٢٤ ساعة، بقدر ما يقطع في يومه ذلك من
درجات الطول، فتنقص أيام دورته واحدًا عن المقيم، حيث يصير معيار يومه أكبر
ومن يسير نحو الشرق يصير يومه أقل من ٢٤، بقدر ما يقطع فيه من الطول
أيضًا، فتزيد أيامه واحدًا عن المقيم، حيث مقياس يومه أصغر. (أما لو
نظرنا لمقدار تلك الدورة من الساعة فنجدها متساوية في نظر الثلاثة؛ حيث
تكون (١٩٢٠) ساعة في حسابهم جميعًا) .
ثم فرَّعوا على ما ذكر صحة كون اليوم الواحد جمعة عند شخص (هو المقيم)
وخميسًا عند آخر (هو المغرب) ، وسبتًا عند ثالث (هو المشرق) ، وحقًّا أن
هذا الاختلاف يكون على ما ذكروا من الصحة، لولا أن هناك مسألة أخرى من
مقتضيات كروية الأرض، يعارض ما لها من الأثر السائرين في حسابهما، بحيث
لو لم يراعياها لظهر خلل في حسابهما، وقد فات مَن فرَّع هذه المسألة على السابقة
أن يراعي في تفريعه تلك المسالة أيضًا؛ فلذلك ترى عند تطبيق هذه المسألة خللاً
في حساب السائرين من وجوه، وها نحن نطبقها على محل معين لينجلي لك ما قلنا
فنقول: خرج زيد وبكر من دار السعادة -حرسها الله تعالى - في وقت واحد بقصد
الدوران حول الأرض، فسار زيد نحو الشرق (لجهة الأناضول) ، وسار بكر نحو
الغرب (لجهة الروم إيلي) ، وصار يحسب كل منهما الأيام في جميع سيره على
ترتيبها المعروف، غير مراعٍ لتلك المسألة التي يجب على السائر مراعاتها، حتى
رجعا لدار السعادة في وقت واحد، (فكان رجوع زيد من جهة الروم إيلي، وبكر
من جهة الأناضول) ، وعلى هذا فغير خافٍ أنه لو كان اليوم عند أهالي الآستانة
الجمعة - لكان في حساب زيد السبت، لكن نرى في حساب هذين حينئذ خللاً من
وجوه:
(أولاً) : أنه لم تقع تلك المخالفة بينهما وبين أهالي دار السعادة فقط، بل
وقع مثل ذلك بينهما وبين البلاد التي مرا عليها في آخر دورتهما، ولولا ذلك لم يقع
بينهما وبين أهالي دار السعادة اختلاف، كما هو ظاهر، فكان بين زيد وبين أهالي
الروم إيلي، بل وجميع بلاد أوروبا أثناء مروره عليهم في آخر دورته من الاختلاف
شبه ما وقع بينه وبين أهالي دار السعادة حين وصوله إليها، كذلك كان بين بكر
وبين أهالي الأناضول، بل وعموم سكان آسيا أوان مروره عليهم في آخر دورته من
الاختلاف شبيه ما وقع بينه وبين أهالي الآستانة، ولا يمكننا القول بوجود خطأ في
حساب أولئك السكان، لما يأتي.
(ثانيًا) : أن كلًّا منهما يرى صحة حساب من خالفهم الآخر، فزيد يرى
صحة حساب أهالي آسيا الذين خالفهم بكر، وبكر يرى صحة حساب أهالي أوروبا
الذين خالفهم زيد.
(ثالثًا) : أنهما لو أرادا أن ينشئا دورة ثانية قبل تصحيح حسابهما، ونحا كل
منهما الوجهة التي نحاها أولاً، فعند رجوعهما للأستانة إذا كان اليوم عند قاطنيها
الجمعة يكون في حساب بكر الأربعاء وفي حساب زيد الأحد، وفي ثالث دورة كذلك،
لو كان في دار السعادة الجمعة لكان في حساب بكر الثلاثاء وفي حساب زيد
الإثنين وهلم جرًّا. بل عمل كل منهما بعد إتمام الدورة يدل على وجود خلل في
حسابه السابق، حيث يكون مجبورًا في نفسه على تصحيح حسابه ليطابق حساب
المقيمين.
فإن قيل: نسلم أن الاختلاف المذكور بين السائرين والمقيم ينتج ما ذكرت من
الخلل، لكن هل من طريقة لو درج عليها السائران لسلما من مخالفة المقيم عند
إيابهما إليه بعد تسليم ما ذكرت سابقًا من أن أيام المشرق تزيد عن أيام المقيم واحدًا،
وأيام المغرب تنقص عنه واحدًا؟
قلت: نعم، وذلك بتبديل التاريخ أثناء السير، بمعنى أنه بينما يكون اليوم في
حساب السائر الأربعاء مثلاً وإذ به بعد لحظات عند وصوله لنقطة معينة يقول:
صار اليوم في حسابي الآن الخميس، وليس ذلك لكونه انقضى اليوم الأول، بل
ربما لم يمض منه سوى ساعة أو أقل، (إنما ذلك لمراعاة تلك المسألة التي تقدم أنه
يجب على السائر مراعاتها وسيأتي بيانها) ، وهذا إذا كان السائر مغربًا في سيره.
أما إذا كان مشرقًا فيلزمه أن يبدل التاريخ باسم اليوم الذي مضى في حسابه، أي
بينما يكون اليوم في حساب الأربعاء وإذ به عند وصوله لنقطة معينة يقول: صار
الآن في حسابي الثلاثاء، فيبدل المغرب اسم يومه ذلك وتاريخه من الشهر باسم
وتاريخ اليوم الآتي، والمشرق باسم وتاريخ اليوم الماضي, وبهذا يزول جميع أنواع
الخلل التي تقدم ذكرها، ولا يبقَى بين السائر وبين أحد اختلاف أصلاً، مع ما في
ذلك من بقاء زيادة أيام المشرق عن المقيم في العدد، ونقصان أيام المغرب عنه
(وتبديل التاريخ هذا أمر مشهور عند عظماء هذا الفن معمول به عند السواح في هذه
الأعصار) ، ولو تأملت في حالة السائر لوجدته منساقًا لتبديل التاريخ على جميع
الحالات؛ لأنه إذا لم يبدل التاريخ أثناء السير كما قلنا فهو مجبور لذلك بعد إتمام
الدورة، وهو المعبر عنه سابقًا بتصحيح الحساب، فهلا كان ذلك منه أثناء السير
في محله المناسب.
فإن قيل: نعم، لو جرى السائر على ما ذكرت لسلم مما لحقه في الحساب
السابق من الخلق، لكني أرى ذلك أعرق بالفساد من تلك المسألة التي حاولت
تزييفها. وذلك أن السائر كان لا شك موافقًا في حساب الأيام للسكان الذين مر عليهم
قبل تبديله التاريخ، لكن لما وصل للنقطة التي بدل عندها، سواء كان في محل
معمور أو بعيدًا عن العمران، فلا يخلو حاله بعد ذلك من أحد أمرين:
(١) إما أنه يكون مخالفًا في الحساب لمن سيمر عليهم بعد ذلك.
(٢) أو يكون موافقًا.
فإن كان الأول تكون هذه أعلق بالبطلان، كما هو ظاهر، وإن كان الثاني
فيلزمك على ذلك القول بوقوع اختلاف في حساب الأيام بين أمتين متجاورتين، بأن
يكون اليوم الواحد في حساب إحداهما خميسًا، وفي حساب الأخرى الأربعاء مثلاً،
وبعبارة أخرى يلزمك القول بوجود نقطة على وجه الأرض، يختلف في جهتيها
حساب الأيام، فيكون اليوم الواحد عند الأقوام الذين في الجهة الغربية من تلك
النقطة الخميس مثلاً، وهو عند الذين في الشرقية منها الأربعاء، وهذه المسألة لم
يروها لنا أحد، بل تحكم بداهة العقل ببطلانها.
أقول: إني قائل بالحالة الثانية (وهو أن السائر يكون موافقًا لمن سيمر عليهم
بعد تبديل التاريخ، كما كان موافقًا لمن مر عليهم قبل ذلك) ، وأجزم بتحقق لازم
هذه الحالة من وجود نقطة على وجه الأرض يختلف في جهتيها اليوم على ما ذكرت،
وإن طالبتني بالدليل على ذلك فأقول: هو ما يجري عليه السواح في هذه
الأعصار من تبديل التاريخ أثناء سيرهم، وهو أمر مشهور عند رؤساء هذا الفن
فعليك السؤال منهم، وما ذكرته في الاستدلال على بطلانه لا يصنع شيئًا، كما لا
يخفى. على أنا نرخي معك العنان إن كنت في ريب مما ذكرنا ونقول: إن السائر إذا
لم يبدل التاريخ أثناء سيره لا شك أنه يصبح في آخر دورته مخالفًا في حساب الأيام
للثالث المقيم، بل ولجميع من مر عليهم في آخر دورته، كما تقدم، وما لذلك من
سبب سوى ما ذكرنا من الاختلاف الذي كان يقضي عليه بتبديل التاريخ عند انتقاله
من إحدى جهتي نقطة الاختلاف للجهة الأخرى، لكن لما لم يراع ذلك حين انتقاله
للجهة الثانية من نقطة الاختلاف ظهر بينه وبين من فيها من السكان اختلاف في
حساب الأيام، ثم بقي هذا الاختلاف ممتدًّا بينه وبين كل من مر عليهم من السكان
بعد ذلك، حتى وصل للمحل الذي ابتدأ السير منه، وهناك ظهر بينه وبين المقيم
الاختلاف المتقدم، ومن يَدَّعِ أن سبب الاختلاف بين المقيم والسائر الذي لم يبدل
التاريخ غير ما ذكرنا فعليه البيان.
فإذًا مسألة السائر كيفما مشيتها تكون دليلاً قطعيًّا على ما ذكرنا من وجود نقطة
يختلف في جهتيها حساب الأيام، وهذه هي المسألة التي قلنا فيما تقدم إنه يجب على
السائر مراعاتها، وإذا لم يراعها يختل حسابه، ومراعاتها إنما تكون بتبديل التاريخ
الذي تقدم شرحه.
فإن قيل: إنما يتم استدلالك بذلك على ما ذكرت إذا كانت جميع السواح متفقين
على تبديل التاريخ في نقطة واحدة، أما إذا كانوا يبدلون في نقطة مختلفة فلا؛ إذ
ربما يدل على ذلك أن هذا التبديل أمر اعتباري لا أثر له، فهل عندك علم من هذا؟
أقول: إن السواح غير متفقين على التبديل عند نقطة واحدة، لكنهم متفقون
على إيقاعه في الإقيانوس الباسفيكي؛ لأن منهم من يصنع ذلك عند منتهى الطول
على اصطلاح قومه، ومعلوم أن منتهى الطول في جميع اصطلاحات أوروبا واقع
في ذاك الإقيانوس، ومنهم من يلتزم ذلك عند بلد معين، فقد وقفت على أن بعض
رباني (قبطاني) السفن يلتزم ذلك عند بلوغه مدينة (مانيلا) من جزائر فيلبين،
فاتفاقهم على إيقاع التبديل في الإقيانوس الباسفيكي يدل على أن سكان غربي أميركا
مخالفون شرقي آسيا في حساب الأيام على ما تقدم ذكره، واختلافهم في النقطة التي
يحصل عندها التبديل من ذاك الإقيانوس لا يدل على أن ذاك أمر اعتباري لا أثر له؛
لأن الإقيانوس غير معمور بالسكان، فيمكن تبديل التاريخ في أي نقطة منه، وإن
كان يجب أن يكون ذلك في نقطة واحدة منه عند الجميع (وسيكون ذلك) .
فعرفت مما تقدم أنه ليس مرادنا بتزييف تلك المسألة نفي وقوع اختلاف ما بين
المقيم والسائرين اللذين لم يبدلا التاريخ أثناء السير، كما هو المفروض في تلك
المسألة، بل نفي وصف الصحة عن ذاك الاختلاف، وإن بين الاختلاف الذي
ذكرناه في مسألتنا وبين الاختلاف الذي ذكروه في تلك المسألة فروقًا كبيرة، ولا
بأس بذكرها وإن تكن تفهم مما تقدم زيادة في الاستبصار وهي:
(١) إن ما ذكروه من الاختلاف إنما يكون بين السائر حول الأرض وبين
المقيم، وما ذكرته أنا واقع بين أقوم مقيمين متجاورين.
(٢) ما ذكروه من الاختلاف متردد بين ثلاثة أيام، وما ذكرته إنما يكون بين
يومين، ويستحيل أن يكون بين ثلاثة.
(٣) ما ذكروه ينتج خللاً من وجوه كما عرفت، وما ذكرته صحيح بتوفيقه
تعالى، لا يترتب عليه أدنى خلل.
ولنكتفِ في البيان عن الاختلاف الذي ذكرته بهذا المقدار، وإن كان ذلك لا
يفيد تصوره عند من لم يكن له به علم من قبل إلا بوجه الإجمال؛ لأني لو بسطت
الكلام وفصلته عن ذلك جهد المستطيع لا يمكن فهمه تمامًا لمن لم يكن سبق له به
علم (كما بلوت ذلك) إلا بشيئين:
أحدهما: أن يكون للقارئ اطلاع على فن الهيئة أو شيء من الجغرافيا
الرياضية إذا كان حسن التصور.
ثانيهما: تطبيق ما ذكرته من الاختلاف على أشكال هندسية.
وحيث إن الاختلاف الذي ذكرته هو مسألة جليلة يترتب عليها فوائد مهمة،
منها ما سبق أنها ستكون المرشد الوحيد إلى تلك النقطة التي يجب أن تتخذ مبدأ
للطول عند العموم، دعاني ذلك لوضع رسالة خصوصية في هذه المسألة بسطت
فيها الكلام بسطًا لا أظن وراءه غاية، إلا إذا كان من شرح عليها أو حاشية،
صورت ذاك الاختلاف فيها بأشكال لا أخال بعدها بيانًا ذاكرًا في تلك الرسالة بعض
أبحاث كالتتمة لبيان هذه المسألة، مثل علة وجود هذا الاختلاف، والناحية المرجح
وجود ذاك الاختلاف فيها مع تطبيق كيفية وقوع الاختلاف بها، ولم كان ذلك بها،
ولم يكن بغيرها وغير ذلك.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رحيم
(المنار)
تُطلب الرسالة المؤلفة في هذه المسألة من إدارة جريدة المنار، وتُرسل لمَن
يطلبها من علماء الفن مجانًا.