للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أحد الفضلاء


مفاسد لا موالد
لأحد الفضلاء
يصف المولد الكبير الأحمدي وبعض ما كان فيه من البدع والمنكرات
والتقاليد والعادات
إن صح ما يقوله علماء العمران من أن المعارض معيار تقدم الأمم وارتقائها
في الحضارة؛ لأنها السوق الذي تعرض فيه بضائعها وما حصلت عليه من علوم،
وما تحلت به من أخلاق وآداب، والزناد الذي باستيرائه يتجلى كامن القوة، ويتسنى
الانتفاع بما أودع الله فيه من صنعة الحكيم العليم - كان المولد الأحمدي هو أول
معيار يعرف به الحكيم الحاذق ما عليه أمتنا المصرية من الارتقاء في سلم المدنية،
وما أحرزته من مستلزمات الحضارة والسبق في ميدان تنازع البقاء، ويمكنه بعد
أن يجول في أنحاء طنطا في هذه الأيام جولة صغيرة، أو يجلس في محل مشرف
على طريق عام برهة من الزمن أن يستجمع من الأدلة والبراهين التي يشاهدها
بعيني رأسه، ويسمعها بأذنه ما يكفي لاقتناعه بأن يُصْدِر حكمًا قد رسخت قواعده
على أساس العدل على ما وصلت إليه الأمة في آدابها وأخلاقها، وهل هي من ذلك
في الدرك الأسفل أو الدرجة العليا، وإذا كان ممن يعرف شيئًا عن حقيقة الدين
الإسلامي تبين مقدار محافظة الأمة عليه، وقيامها به، واعتبر هذا المولد عظة
وذكرى لقوم يعقلون.
ولكن ما الذي يشاهده يا ترى؟ يشاهد طنطا وقد احتشد فيها أنواع الناس من
كل فج وناحية، وهي تموج بهم موجًا وقد ضاقت بهم أرجاؤها على رحبها، وقد
تخلل عشرات ألوف هذا الجمع المزدحم آلاف من الباعة لأنواع الألاعيب وملهيات
الأطفال والمناديل وأنواع الخردوات وسائر المعروضات، التي لو سألت عن
منشئها، ومن أين جاءت لأجبت لأول وهلة إنها من واردات البلاد الأجنبية، فليس
بين ما يعرضه الباعة من المصنوعات المصرية إلا النزر اليسير من تافه المبيعات
كالزمارات المتخذة من القصب الفارسي ونحو ذلك، وما بقي فمعروضات إفرنكية
في الحقيقة، وقلما تسمح نفس مصري بعرض مصنوع مفيد يكون من ورائه ترقية
حال الأمة في زراعتها، أو تسهيل الأعمال التي تزاولها من المهن الضرورية،
على حين نرى فيه الإفرنج يتسابقون إلى مثل هذه الأحوال فهم يعرضون في هذا
المولد طنبورًا رافعًا للمياه، يذكرون من فوائده أنه يسهل ري الأرض بدرجة لم
يسبقه بها من الآلات الرافعة إلا ما كانت إدارته بقوة الآلات الكهربائية أو البخار.
وقد رأيناهم يعرضون في المولد الذي قبل هذا أنواعًا من النوارج ومكينات
لفرط الذرة، وأخرى لغربلة الحبوب، وثالثة لطحن البن وما شئت من مصنوعات
تضافرت عليها أفكار وأيدي الإنسان، فكانت خير نتيجة أنتجها الجد وممارسة
العلوم {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء: ٨٥) .
إذا صرف العاقل نظره عن التأمل فيما يتبادل الناس بيعه وشراءه، وتأمل في
هذا الجمع المزدحم رأى أصناف الناس كأنما دعاهم داعي النشور، فقاموا مسرعين
إلى موقف فصل القضاء، قد اختلط الرجال بالنساء والكبار بالصغار، كل آخذ في
سبيله منصرف لما يريد، يُرى من بين هذا المزدحم فئات من الشبان قد التفوا حول
غانية هيفاء، وقد خرجت متبرجة تبرج الجاهلية الأولى، وبذلت أقصى ما تصل
إليه يد إمكانها من الزينة لتغري هؤلاء الأغرار باتباعها حتى يصلوا بها إلى ملهى
من الملاهي، ويكون هناك من انتهاك حرمة الآداب ما تقشعر منه الأمم العريقة في
الهمجية.
يرى الطبول تقرع وكاسات الفقراء ترن، والرايات الملونة خافقة في الهواء
وحاملوها يتمايلون كأنما سرت فيهم كهربائية الولاية.
أنا جالس الآن أشاهد الطريق الذي يمر منه الخليفة، وقد ازدحم الناس على
جانبي الطريق والإفرنج يشرفون من الكوى والشرفات ليشاهدوا ما يعمله المسلمون
من شعائر دينهم، ومن تحتهم تمر الخلفاء والنقباء وأرباب الأشائر وأبناء الطرق
بالأزياء المختلفة، وآحاد الناس قد احتضنوا الأبناء وعلى رؤوسهم الطراطير
المخروطية الشكل المختلفة الألوان، وهؤلاء الخلفاء - ما عدا خليفة السيد طبعًا -
يسير الواحد منهم وهو ممتط فرسًا ذلولاً، وقد أمسك بهذا الشيخ من جوانبه الأربع
فئة من مريديه، وهو يتمايل على أيديهم ذات اليمين وذات الشمال، وإلى الأمام
وإلى الوراء، وآخران قد أمسكا بزمام فرسه وهو على هذه الحال كأنما أُخذ عن
حسه واستغرق في مشاهدة الذات الأقدس، والبعض من هؤلاء المشايخ الأقطاب قد
أسبل على رأسه وجانب من نصفه الأعلى كساء من الصوف الأحمر أو الأصفر أو
الأخضر أو نحو ذلك، فلا يُرى من بدنه شيء، وبعض قد عرى رأسه وجسده إلى
ما تحت السرة، وانحسر اللباس عن رجليه إلى ما فوق الركبتين، فلم يستتر من
جسده غير سوأتيه، وهو في تمايله ذاك يخرج من فيه لعابًا يسيل من أشداقه كأنه
يتخذ هذه الحال عنوانًا على الرقي إلى حظيرة القدس أو التناهي في مقام القرب،
وكونه لم يبق بينه وبين مخالطة الملأ الأعلى وعالم الروحانيات شيء، وأمامه
وخلفه ثلة من الشيب والكهول والشبان بغريب الملابس قد استولى عليهم الجذب،
وشغل حسهم شهود الخالق في زعمهم، فهم يثبون وثبة القرد أمره سيده بمحاكاة
البرابرة يرقصون في ملاهيهم فائتمر، والناس يقرأ بعضهم الفواتح والبعض
يستغيث بهم والنساء تزغرط، وما شئت من هذا الباب واكتلت من هذا الجراب.
وبعد ذلك مرت الموسيقى وعلى جماعتها مظلة واحدة يبلغ قطرها ثلاثة أمتار
ونصف تقريبًا، وقد نُقشت بأنواع الأصباغ، فكانت مرمى نظر الجميع، ثم مر
الطبل التركي وخلفه أرباب الحِرَف وخَدَمَة القهاوي من البلاد المختلفة، وقد امتطوا
الخيول والبغال والإبل على أنحاء شتى وعلى رؤوسهم الطراطير الموصوفة، ولا
تسل عن عربات النقل (الكارو) المقلة للنساء والفتيات، وقد لبسن الطراطير،
وأخذ الحَرُّ مأخذه منهن حتى إن الواحدة ربما لم تجد شيئًا تحرك به النسيم سوى
نعلها، فتنتزعه من رجلها وتمر به أمام وجهها يمينًا وشمالاً تموِّج به الهواء تنفس
عن نفسها، وربما فعلت ذلك لتكون أضحوكة.
ومر بعد ذلك شخص أمامه موسيقى خصوصية، وقد اعتلى فرسًا وجعل على
رأسه كوفية ملونة ولف عليها عقالاً وضرب بفضل أطراف الكوفية على وجهه،
فلم يظهر منه سوى عينيه وشد على وسطه زنارًا ملونًا، واحتذى حذاء مما لا
يلبسه إلا السيدات، وحلَّى ساقه بخلخال لامع من الفضة، فاختلف الناس فيه أهو
مخنث أو امرأة تخفي أمرها، وبعبارة أخرى (هل هو الرجل الجديد أو المرأة
الجديدة) ثم مرت شرذمة من العساكر الفرسان بأيديهم السيوف، تتلوها أخرى من
الرجال بأيديهم البنادق، ثم غوغاء من الناس يذكرون الله لا يتجاوز الذكر حناجرهم
وقد تلجلج بصرهم ذات اليمين وذات الشمال، ثم سبعة من كناسي المسجد
الأحمدي بأيديهم سيوف أنحى عليها الصدأ وكر الغداة ومر العشي، وقد لبسوا
دروعًا وخوذًا أخلقتها الدهور لا قِراع الكتائب، والظاهر أنها كانت ما يُستعمل زمن
الحروب الصليبية، والناس يزعمون أنها كانت لباس الأسرى الذين احتملهم سيدي
أحمد البدوي من بلاد الكفار، وأمامهم حاملو البلط والسيوف الخشبية، ثم الخليفة
وعلى رأسه التاج المنسوب إلى السيد أحمد البدوي، وبجانبه الحراس من فرسان
العساكر والأهالي خيفة أن يختلس التاج أولاد نوح الذين يزعمون أنهم أولى به،
ووراءهم أخلاط المشاة والركبان بالأزياء المختلفة والبعض قد ضم إليه طفلاً ألبسه
خرقة خضراء وطرطورًا رجاء أن يعيش ويطول عمره، تتخللهم زعانف آخرين
كحملة المزمار والطبل البلدي والتركي، ثم الذين يركبون الإبل، وقد وُضعت بينهم
مائدة على ظهر بعير يلعبون عليها بالضمن والكوتشينة والنرد، ثم راكب على
جمل قد لبس حلة من شعر المعز وتاجًا أخضر محلّى بالقصب المخيش وحلة
خضراء، وأمامه ولد كذلك، وأمام الولد سفط مغشى بالنسيج الأخضر وغبيط
الجمل كذلك، وبعد ذلك ثلاثة نفر قد صبغوا وجوههم بألوان من الأسفيذاج
والسليقون واللاذورد وتزيوا بأزياء مختلفة وبيد كل منهم قرص من السرقين يموِّج
به الهواء ليستنشقه باردًا، وبالجملة لا يكاد يمر بالموكب إلا من غيَّر زيه وشكله
وخَلْقَه وخُلقَه.
هذه بعض صفات المولد الأحمدي الذي يعتقد كثير من الناس أنه من
مستثنيات الشريعة الغراء، وأن المبادرة إليه من أفضل القرب، وأن من زنى فيه
لا بد أن يتوب الله عليه، وأن موكب الخليفة الموصوف هو مهبط الأسرار الربانية
وأن ما يقع فيه من الأمور المخالفة للشريعة لا يقع إلا وقد سبقه الغفران، وهكذا
تلبس المساوي لباس الآداب الدينية وتلتصق الوثنية بدين التوحيد، وتعد المخازي
الهادمة للآداب والمروءة من دعائم الحنيفية السمحة، تبرأ الإسلام من ذلك وتعالى
الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.
أكتب هذه السطور وأنا مشرف على موكب الخليفة من جهة يميني، وعلى
يساري كتاب فيه تاريخ الفراعنة في وثنيتهم الأولى أطالع وصف مواكبهم وأجيل
طرفي في صورة الموكب، فلم أقرا مثلما يلمح طرفي الآن مما يشوه وجه الآداب،
أو يناقض سمات الفضيلة، فخيل لي أن تلك الوثنية الأصلية أرقى من جميع
الوجوه مما لحق بالإسلام والتصق به من هذه الشعائر الوثنية الطارئة.
مررت على بيت فإذا فيه جماعة قد أخذوا بأيديهم المعازف من الدف والمزمار
البلدي والأرغول والناي، والجميع يعزفون بالأنغام، ومنهم ضارب على صنجة
رنانة من الفولاذ، ومعهم جماعة يتمايلون ويوقعون الذكر على هذه الألحان، ففي
أي دين جاء هذا، وفي أي قرآن شُرِع، وعلى أي رسول نزل؟ هذا القرآن الذي
جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ليس في آياته أمر يذكره تعالى في حال تمايل
الذاكر كتمايل الثمل أمام إناء بنت الحان فأمالته، ولا أن يكون ذكر الله على توقيع
ألحان المعازف، ولم يُنقل من أحواله صلى الله عليه وسلم شيء من هذا الذي يأتيه
أعوان الضلال الذين يتبعون خطوات الشيطان وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.
وهناك قوم آخرون يذكرون الله بأصوات منكرة مزعجة أذكرتني ما أخبرني
به بعض المدرسين بالجامع الأحمدي وهو أنه شاهد جماعة من هؤلاء في سفره إلى
الحجاز كانوا معه في قافلة وهم من المصريين، فأناخت القافلة في وادٍ بين جبلين،
فقام هؤلاء يذكرون (الذكر البيومي) في جوف الليل، فلما علا صوتهم وتردد
صداه في تلك الصحراء هاجت الجمال، وأخذت في أرجلها أطناب الخيام، وقلَّعت
الأوتاد، وذعر النيام، وساءت حال القافلة، فقام الأعراب ممتشقين السيوف
يتساءلون ما هذا الضجيج، فقال لهم ذلك المدرس هذا ذكر الله، فقال له أعرابي
جلف: ذكر الله به تطمئن القلوب، ولا تهيج منه الجمال.
هذا بعض ما رأيته في هذا المولد، ولو كنت ممن يغشى مواطن اللهو لذكرت
كيف تُراق دماء الآداب بإراقة دم بنت العنقود، وكيف تنحدر جداول الدراهم
والدنانير وتصب في خزائن باعة المسكرات، وكيف يأتون بالبغايا وينصبونهن
حبائل لاقتناص الوارثين من أبناء الموسرين، وكيف يخرب هؤلاء الأغرار بيوتهم
بأيديهم وأيدي الخواجات، ومن وراء ذلك سوء المنقلب وبئس المصير.
وفي الختام أقول إن السيد أحمد البدوي رضي الله عنه لو كان حيًّا يمشي على
رجلين، وينطق بلسان وشفتين، ودعا أهل القطر المصري لعمل من الأعمال
الخيرية يعود عليهم بالخير العاجل والثواب في يوم الجزاء، لما لقي منهم إلا
إعراضًا، بل لو قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى مثل ذلك لما كانوا
له إلا كما كان عبد الله بن أبي بن سلول فإلى متى لا نرى من الحكومة إلا المساعدة
على هذه المنكرات، ولا نبصر من العلماء إلا الإقرار على هذه الموبقات.
... ... ... ... ... ... ... ... ع. ن