للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تغزل النساء

يستنكر ذوو الطباع السليمة تغزل الذكور بالذكور؛ لأن عشق الولدان من
فساد الفطرة، ولا يستنكر أحد تغزل امرأة بامرأة، وإن كان عشقها لها منكرًا
وقبيحًا، على أن الغزل ليس ملزومًا للعشق دائمًا، وقد خرجت يومًا حمدة بنت
زياد الأديبة المتصوفة الشهيرة متنزهة بالرملة من وادياش فرأت ذات وجه وسيم
أعجبها فقالت:
أباح الدمع أسراري بوادٍ ... له في الحسن آثار بوادي
فمن نهر يطوف بكل روض ... ومن روض يطوف بكل وادي
ومن بين الظباء مهاة رمل ... سبت لبي وقد ملكت قيادي
لها لحظ تُرَدِّده لأمر ... وذاك اللحظ يمنعني رقادي
إذا سدلت ذوائبها عليه ... رأيت البدر في جنح السواد
كأن الصبح مات له شقيق ... فمن حزن تسربل بالحداد
وما أحسن الإبهام في قولها (تردده لأمر) وأما تغزل ذوات الحجال بالرجال
فأراهم يستملحونه على القول بوجوب كثافة الحجاب، ولا أستثني الذين ينفرون من
التغزل المذكر مطلقًا، وكأن الشعور بكون الشعر قد برز من وراء الخدر يؤثر في
حقيقته وماهيته، أو يغير جهة قضيته، فيحول استقباحه استحسانًا ويجعل خسره
رجحانًا، فيغلب هذا الوجدان والشعور، وجدان وجوب استخفاء ربات الخدور،
وأما علة الاستملاح في ذوق من لا يقول بضرب الحجاب على الملاح، فهي
موافقة الفطرة، وإجابة دعوة الطبيعة، ومعظم الاستنكار في ذلك الضرب من
الغزل إنما هو باعتبار مصدره ومجلاه، لا باعتبار حقيقته وفحواه، ومنه قول
حمدة نفسها الذي يوردونه شاهدًا في كتب البديع ويتلقونه بالقبول:
ولما أبى الواشون إلا فراقنا ... وما لهم عندي وعندك من ثار
وشنوا على أسماعنا كل غارة ... وقلّت حماتي عند ذاك وأنصاري
غزوتهم من مقلتيك وأدمعي ... ومن نَفَسي بالسيف والسيل والنار
ومن غزلهن المستملح المستحسن قول علية بنت المهدي أخت هارون الرشيد:
إني كثرت عليه في زيارته ... فملّ والشيء مملول إذا كثرا
ورابني منه أني لا أزال أرى ... في طرفه قِصَرًا عني إذا نظرا
وهذان البيتان بحيث تراهما من الحسن والبلاغة على أنهما لم يتجاوزا حدود
الحقيقة، ولم يخرجا عن محيط الصدق، بل لم يبالغا في الوصف أيضًا، ويالله ما
أحلى الاعتذار في البيت الأول وما أبلغ حكمته؟ ويالله ما أرق الوصف في البيت
الثاني وما أدق بيان موضع الريبة، وما ألطف مراعاة شمائل الحبيب واستخراج
خبايا نفسه من ظاهر حسه، وناهيك بما تُحَدِّث به العينان عن خفي الشعور
والوجدان، كذلك يجمل بالمحب الإنصاف والاعتذار، كما يجمل من الحبيب الجور
والنفار، وفي هذا قالت علية أيضًا:
بُنِيَ الحب على الجور فلو ... أنصف المحبوب فيه لسمج
ليس يستحسن في شرع الهوى ... عاشق يحسن تأليف الحجج
وقليل الحب صرفًا خالصًا ... هو خير من كثير قد مزج
وأي خير في الحب الممزوج، وما هو إلا مزج السم بالدسم، وما عاقبته إلا
الفناء والعدم.
ومن نظم علية في الحنين إلى الوطن، وكانت خرجت مع الرشيد إلى الري
فلما بلغوا المرج نظمت هذين البيتين، وغنت بهما وكان من أحسن الناس غناء
وصوتًا فسمع الرشيد فردها إلى العراق:
مغترب بالمرج يبكي لشجوه ... وقد ضل عنه المسعدون على الحب
إذا ما أتاه الركب من نحو أرضه ... تَنَشَّقَ يستشفي برائحة الركب
ومن نظمها في طبيعة الحب، وفائدة الهجر والعتب:
تحبَّب فإن الحب داعية الحب ... وكم من بعيد الدار مستوجب القرب
تبصَّر فإن حُدِّثت أن أخا الهوى ... نجا سالمًا فارج النجاة من الحب
وأعذب أيام الهوى يومك الذي ... تروّع بالهجران فيه وبالعتب
إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضا ... فأين حلاوات الرسائل والكتب
كان الأَولى أن تقول (أخا هوى) ويروى الثالث (وأطيب أيام الفتى يومه
الذي) .
أوردنا هذا تفكهة وتمليحًا لبعض القراء الذين يملون الجد الصرف، كما قالت
علية - والشيء مملول إذا كثر، وليس هذا الغزل بالقول الهزل، والكلام العُطْل؛
فإن به يرق الشعور ويلطف الوجدان وتتهذب النفس، والفقهاء لا يحرِّمون الغزل
إلا إذا كان في أجنبي معيَّن، أو كان فيه فحش، وقد سمع النبي صلى الله تعالى
عليه وسلم الغزل والنسيب حتى في المسجد، ومن ذلك أوائل قصيدة (بانت سعاد)
الشهيرة.