للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأخبار التاريخية

(سخاء السلطان على رجال الدولة والمابين)
نرى كثيرًا من الجرائد تُعَرِّض بسوء حال الموظفين في الدولة العلية،
وكونهم لا يصلون إلى بعض رواتبهم إلا بشق الأنفس، وتطلق القول في ذلك
إطلاقًا، والذي نعرفه من حال الموظفين الذين يعرفهم مولانا السلطان كالوكلاء
ورجال المابين وأمراء الجيش أنهم يأخذون رواتبهم، وما يقرب منها أو يزيد عليها
من الإحسانات الحميدية، وله - وفَّقه الله تعالى - تفنن في ضروب الكرم والسخاء ما
كان يخطر مثله في بال حاتم الطائي ولا كعب بن مامة، فكثير ما يهب الهبات
العظيمة بناء على حلم يراه في النوم، ومن ذلك أن ناظر الحربية كان نائمًا ذات
ليلة، فأيقظوه قائلين: إن رسولاً من قبل مولانا السلطان يطلبك، فقام مذعورًا ظانًّا
أن قد وقعت الواقعة، واحتيج إلى أشد القوة الدافعة، وإذا بالرسول يحمل خمسة
آلاف ليرة هدية، فأعطاها للناظر، وقال: إن مولانا يسلم عليك، ويقول: إنه رآك
الليلة في منامه محتاجًا إلى الدراهم فعجل لك هذه الهبة.
وقد تتحرك في نفسه الكريمة أريحية السخاء بعد غضب واستياء، فيجيب
داعيها فيكون سببًا للرضا شبيهًا بالاعتذار، كما وقع من عهد قريب عندما غضب
على الشريف أمير مكة المكرمة ووبَّخه بلسان البرق، ثم لم يلبث أن أرسل إليه
ثلاثة آلاف ليرة هدية.
وقد بنى قصورًا عظيمة لأكثر رجاله وكبار رجال الدولة، نذكر منها ما
عرفنا موقعه ومبلغ نفقته فمنها بقرب يلدز (١) قصر السر عسكر رضا باشا أنفق
عليه ثمانية عشر ألف ليرة و (٢) قصر عثمان باشا الغازي (رحمه الله) أنفق عليه
عشرين ألف ليرة. و (٣) قصر أحمد عزت بك العابد كاتبه الثاني، وأقرب
الناس منه ولا نعلم ما أنفق عليه؛ ولكننا علمنا أنه أنفق على نقش غرفة واحدة منه
وعلى أثاثها ورياشها خمسة آلاف جنيه، ومنها في نشانطاش (١) قصر الصدر
الأعظم خليل رفعت باشا أنفق على القديم منه ٥٠٠٠ ليرة، وعلى الجديد أربعين
ألف ليرة و (٢) قصر زكي باشا مدير الطوبخانة أنفق عليه ١٥٠٠٠ ليرة
و (٣) قصر شاكر باشا رئيس أركان حرب المعية أنفق عليه ثلاثين ألف ليرة
و (٤) قصر جواد باشا الصدر الأسبق نفقته عشرون ألف ليرة و (٥) قصر كامل
باشا الصدر الأسبق نفقته ١٨٠٠٠ ليرة و (٦) قصر الباشكاتب تحسين بك نفقته
عشرة آلاف ليرة و (٧) قصر سعيد باشا الصدر الأسبق نفقته ٨٠٠٠ ليرة
و (٨) و (٩) قصر الحاج علي بك الباش مابينجي، وقصر سعيد باشا رئيس
مجلس الشورى نفقة كل منهما ٥٠٠٠ ليرة، و (١٠) و (١١) و (١٢)
و (١٣) قصور لمحمد بك وسعيد بك وأمين بك وعارف بك كلهم من مستخدمي
المابين أنفق على كل منها ٣٠٠٠ ليرة و (١٤) قصر محمود بك (المتوفى)
ومثله قصر عارف بك في بكماكوي وكلاهما من مستخدمي المابين أنفق على كل
منهما ٤٠٠٠ ليرة و (١٥) قصر منير بك سفير الدولة في باريس نفقته ٥٠٠٠
ليرة و (١٦) قصر لطفي أغا الدخاخني نفقته ٨٠٠٠ ليرة و (١٧) قصر ناظم
باشا والي سورية نفقته ٤٠٠٠ ليرة و (١٨) قصر ثريا باشا الباشكاتب المتوفى
نفقته ٥٠٠٠ ليرة و (١٩) قصر عصمت بك الأتوابجي باشى نفقته ٢٥٠٠ ليرة،
فقيمة نفقة ما علمناه من قصور نشانطاش وحدها يبلغ نحو مائتي ألف جنيه.
مع هذا كله ترى هؤلاء الرجال يتدللون على مولاهم، ويطلب بعضهم
الاستقالة المرة بعد المرة، كالصدر الأعظم وناظر المالية الذي لا نعلم مقدار
الإنعامات المغدَقة عليه، أليس هذا السلطان جديرًا بأن يحار في سياسة هذه الدولة
وأخلاق رجالها وطمعهم؟
***
(فضيلة شيخ الأزهر وانتقاد المكتوب)
من فضل الله تعالى علينا أننا لا نكتب شيئًا في المنار إلا لخدمة العلم والدين
ومصلحة الأمة العامة، وما أبرئ نفسي من الخطأ والسهو؛ ولكن أشهد الله على
حسن قصدي وإخلاصي بحسَب مبلغ علمي بالمصالح والمنافع التي أحث عليها،
والمضار والمفاسد التي أنفِّر عنها، وقد توهم بعض الناس أن نشر الانتقاد على
عبارة المكتوب الذي أرسل من قبل الحبر الأعظم شيخ الجامع الأزهر الشريف إلى
وكيل الداخلية يمنعني من التشرف بزيارة الشيخ بعدها؛ ولذلك أوَّلت بعض الجرائد
زيارتي الأخيرة له بحسب ما وصل إليه النظر الكليل، أو القصد السيئ، وزعمت
أنني رأيت أكثر الناس غير راضين عن ذلك الانتقاد فحاولت تلافي ذلك، وما لي
ولأهل التأويل والتحويل، زرت مولانا الشيخ لأنني أحترمه منذ عرفته، ولم يتغير
ما في نفسي من سبب احترامه، بل زاد بالمنصب الذي ارتقى إليه، ولا أنكر أنني
ألفيته مستاء من نشر النقد، وغير راضٍ بالتأويل، بل قال إن البلاغة هي مطابقة
الكلام لمقتضى الحال، وأن ما كُتب هو المطابق لحال أهل الدواوين، وأنه إذا
كتب إليهم كلام بليغ لا يفهمونه، ولما قلت له إن صاحب السعادة وكيل الداخلية من
أهل العلم والفهم أجاز ذلك، وقال إن المكتوب قد يقع في يد غيره من الكتبة
والموظفين، فينبغي أن يكون بحيث يفهمه الجميع ... ولا حاجة لذكر ما دار من
الكلام في هذا الموضوع؛ ولكن لابد لي أيضًا أن أبين أن السبب في ترك البسملة
والحمدلة في أول المكتوب وسائر ما يكتب من المشيخة، هو تكريم أسماء الله تعالى
واسم نبيه لما يُتوقع من رمي الأوراق وإهانتها، كذا قال الأستاذ لي وأذن بأن يُنشر
وصرح لي بأنه نهى عن الرد على المنار.
ذكرت لمولانا الشيخ من دليل حسن قصدي في كل ما كتبت وأكتب عن
الأزهر، وفي العلماء والتعليم أنني عرضت عليه مرتين أن أذاكره في كل ما أريد
كتابته في شأن الأزهر، وأكتب ما يجيزه مما أعرضه عليه؛ لأكون أنا والمنار
مشمولين دائمًا برضاه، وأنني كنت فهمت منه أنه لم يحفل بذلك، فأكد لي أنني
فهمت خلاف الواقع، وأنه قبل ما عرضت عليه من قبل ويقبله الآن، فتلقيت كلام
فضيلته بالقبول وسأعرض عليه بعد اليوم ما أعزم على كتابته في شأن الأزهر إن
شاء الله تعالي، وهو الموفق للصواب.
***
(منشورات المفسدين في مصر)
يحاول بعض السفهاء الذين يتلذذون بأنهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون
أن يفتحوا على الجناب العالي الخديوي الباب الذي فتحه حزب تركيا الفتاة على
مولانا السلطان الأعظم، من تجرئة الناس على الخوض في شخصه المعظم بالقول
والكتابة، وشغل فكره الشريف بمكافحة الأشخاص والبحث عن الأفراد الذين
يكتبون ويتقولون ويمثلون ويصورون، ثم تلافي ما عساه ينجم عن كتاباتهم وسعيهم
وسعايتهم في الآستانة العلية أو الديار المصرية.
وقد توسلوا إلى هذا المقصد الخسيس بالوشايات القولية والمنشورات السرية،
ومن ذلك ما نوَّهت به الجرائد اليومية من المنشور الذين يُرجفون فيه بأن بعض
زعماء المسلمين وأمراءهم قد بايعوا الجناب الخديوي بالخلافة، ومن تصوير مولانا
السلطان ومولانا الأمير يلعبان على البلياردو برأسي ليون فهمي وصالح بدرخان
وغير ذلك مما لا نذكره.
ونحن نعتقد أنه إذا لم يُقفل هذا الباب قبل تمادي السفهاء فيه؛ فإنه يتعذر
إقفاله بعد ذلك أو يتعسر، ولا وسيلة لإقفاله إلا تنزيه سمع مولانا العزيز أيده الله
عن سماع كلمة واحدة من كلام هؤلاء السفهاء، وتكريم نظره العالي عن التصويب
إلى شيء مما يكتبون بَلْهَ أشخاصهم الخسيسة، وذواتهم المنحوسة؛ فإن مولانا
السلطان الأعظم قد أعياه أمرهم، بعد أن راج في سوق السياسة سحرهم، وهو
صاحب السلطة المطلقة والإرادة النافذة والكف الفائضة، ولو أنه أيده الله تعالى
أيأسهم من سماع كلامهم، والنظر في مواقع سهامهم، لاستراح وأراح.
ثم إن لمولانا العباس - حفظه الله - من بُعد النظر وجودة الفكرة ما يمكنه به أن
يقنع مولانا السلطان الأعظم بمصدر هذه الأراجيف إذا فُرض أنها وصلت إلى يلدز
وأما مصر فلا تأثير فيها لشيء من هذا الهذيان، إلا إذا راج في المعية السنية،
وبيد مولانا الأمير إبطال هذا التأثير، وبيده تربية هؤلاء السعاة المفسدين،
والسفهاء الطامعين، ولاشك أن جميع رجال حكومته ووجوه رعيته محبون لمقامه
الكريم، ومخلصون لجنابه الفخيم، ولا يوجد فيهم من تُحَدِّثه نفسه بأن يطالبه بمثل ما
يطالب ذلك الحزب المشئوم مولانا السلطان، أو ينسب إليه تقصيرًا في أعمال
الحكومة، ولا يمكن أن يكون لكلام المرجفين أدنى تأثير في نفس أحد منهم، فكيف
يؤثر في نفسه العلية؟ كلا سوف يخسأون، ثم كلا سوف يخسأون {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ
ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (الشعراء: ٢٢٧) .
***
(إلى الجناب العالي الخديوي)
مولاي: قد كثر في بلادك نسبة الأشياء إلى لقبك الرفيع، فلا نرى إلا
(الأجزاخانة الخديوية، والقهوة الخديوية، والمطبعة الخديوية) وغير ذلك مما لا
بأس بتشرفه بالنسبة إلى هذا اللقب، ومما ينبغي تنزيه اللقب عنه، وهذه جريدة
(بشائر السلام) التي أنشئت للطعن بدين الإسلام الشريف تُطبع بالإسكندرية في
مطبعة تسمى (المطبعة الخديوية) كما هو مكتوب عليها، وربما يتوهم بعض
المطلعين عليها من غير هذه البلاد أن المطبعة منسوبة إلى سمو الخديو فعلاً،
فيعجبون كيف يصدر منها هذا الطعن الفاحش بالإسلام.
فإذا كانت حكومة بلادك التي امتازت بالحرية قد غلت فيها إلى هذا الحد في
إجازة الطعن؛ فإننا نطلب من حكمة سموك تنزيه لقبك الشريف أن ينسب إليه شيء
بغير إرادة رسمية منك، كما يفعل مولانا السلطان الأعظم أيده الله وأيدك بروح منه
بل نطلب بلسان الإخلاص صدور الأمر العالي بإبطال كل ما ينسب إلى هذا
اللقب، أو يستأذن صاحبه فتتعلق الإرادة بالإذن له.
***
(مأتم الأمير عبد الرحمن في الهند)
جاءنا من وكيلنا في بومباي أنه كان لنعي أمير الأفغان تأثير عظيم في جميع
الممالك الهندية، فاضطرب الناس واختلفت الجرائد الإنكليزية والهندية فيه، فكانت
تكذِّبه تارة، وتصدِّقه أخرى، إلى أن صدر الأمر من اللورد كرزون الحكمدار
الإنكليزي العام بالاحتفال بمأتمه العمومي يوم الاثنين غرة رجب، فاحتُفل به في
ذلك اليوم في جميع البلاد الهندية وسواحلها احتفالاً عظيمًا كالاحتفال بمأتم الملكة بلا
فرق، فكان يومًا مشهودًا عُطلت فيه دواوين الحكومة ومحاكمها وجميع المدارس،
وأُغلقت محال التجارة، وصلى المسلمون عليه جميعًا مع اختلافهم في المذاهب كل
فرقة في مسجدها بأمر كبيرها أو مجتهدها، (قال) : (وصلوا عليه بالأمس بعد
صلاة الجمعة في الجامع الكبير، وبعد الصلاة أرسل تلغراف التعزية مع التهنئة إلى
وكلاء الفقيد، ونحن نحمد الله تعالى على أنه فات هذا الخطب الجلل، ولم ينتطح
عنزان على رغم أعداء الإسلام رماهم الله بالخذلان) اهـ، فتأمل في هذا التأثير
العظيم لفقد هذا العظيم في هذه البلاد.
***
(حرب الإنكليز والبوير)
دخلت هذه الحرب في العام الثالث، وهي لا تزال سجالاً، وقد أدهش ثبات
البوير وبلاؤهم جميع الأمم والدول؛ لأنهم لم يعهدوا من شرذمة قليلة مصادمة دولة
عظيمة زمنًا يُعَدُّ بالسنين، وللحياة الاستقلالية في الأمم آيات يعتبر بها الأحياء،
ولا يحس بها الأموات.