للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الشعور والوجدان وشعائر الأمم والأديان

ينبعث المرء إلى العمل بشعوره ووجدانه أكثر مما ينبعث بفكره وبرهانه،
وبالعمل يسعد ويشقى، وبالعمل يموت ويحيى [١] .
تأثير الشعور والوجدان أقوى في النفس من تأثير العقل والجنان، بل لا تنفذ
أحكام سلطان العقل في مملكة البدن إلا بواسطة الشعور النفسي بالحاجة إلى ما حكم
به لدفع ألم أو تحصيل لذة، فكأن الشعور وزير التنفيذ لسلطان العقل، وكثيرًا ما
يستبد هذا الوزير على ذلك السلطان إجابة لداعي عُمَّال الحواس والمشاعر، فيزعج
الجوارح إلى العمل بدون استشارته فتخسر الأعمال، وتخيب الآمال، ويسوء
المصير والمآل.
نعني بالشعور أن تحس بألم الحاجة إلى الشيء أو بلذته، وبالوجدان ما تجده
في نفسك من ذلك الألم الذي يدفعك إلى العمل بما يقتضيه، أو اللذة الداعية إلى
المداومة على العمل، فالمراد بهما واحد؛ ولذلك نكتفي بأحد اللفظين أحيانًا، ويعبر
الصوفية عن هذا المعنى بلفظ (الحال) ومن أصول طريقتهم تربية الحال بما
ينفخون من روح التأثير بعقيدة من العقائد، أو فضيلة من الفضائل في المريد،
فينبعث إلى العمل الذي هو أثر العقيدة أو الفضيلة بوجدان صادق ويبالغ فيه ما شاء
الله أن يبالغ حتى يكون ملكة راسخة في النفس، وهي ما يسمونه (المقام) يقولون
حال التوكل ومقام التوكل، وحال السخاء ومقام السخاء، وإذا كان المقام عند
الصوفية عبارة عما يسميه علماء الأخلاق من غيرهم خُلقًا وملكة، فهو إذن ما
تصدر عنه الأعمال بلا روية ولا تكلف.
العمل بمقتضى الحال والوجدان يحتاج إلى الفكر في طريق العمل ومقدماته،
ثم يرتقي الإنسان فيه مع التكلف والتأثر إلى هذه الدرجة التي يصدر فيها العمل بلا
تكلف ولا انفعال ولا ترتيب مقدمات؛ ولكنه مع ذلك يشعر بأنه متمكن من ذلك
المقام، ويتفكر في آثاره الحسنة، فإذا غاب عنه هذا الشعور والفكر فصار لا روية
ولا رؤية؛ وإنما هي أعمال كالأنفاس وحركات الجفون، فتلك نهاية الكمال في
المقام، والشيخ محيي الدين بن عربي يعبر عن هذا بمقام الترك، فيقول مقام
التوكل ومقام ترك التوكل ومقام الصدق ومقام ترك الصدق؛ وإنما يعني ترك شهوده
وتلك غاية الكمال، يصدُق المرء من غير شعور سابق يدفعه إلى الصدق عند كل
فرد من أفراده، وبدون فكر في مقدمات الصدق ونتائجه ولا ملاحظة لتلبسه بهذه
الفضيلة، ولا إعجاب بها وبآثارها، وليس محالاً أن يرتقي الإنسان في التهذيب
إلى أن تكون الأعمال الحسنة منه كحركات الجفون لا يتفكر فيها، ولا يشعر بها إلا
إذا ذكره مذكر أو نبَّهه منبه.
تلك درجات مرتبة، ومراتب متعاقبة، فالشعور والحال، ثم الملكة والمقام،
ثم الرسوخ والاطمئنان حتى لا شهود ولا عيان، إلا ما كان كومضة برق، أو
نبضة عرق.
كيف ينفخ المربي روح الشعور النافع والوجدان الشريف في النفوس؛ ليعرج
بها جنات الفضائل العالية، حيث تعيش العيشة الراضية؟ يقول الإمام الغزالي إن
العلم هو الذي يحدث الحال في النفس، والحال هو الذي يُحْدِث العمل، وعلى
العمل مدار السعادة، ويقول إن الترتيب بين هذه الثلاثة واجب لا يتخلف بمقتضى
اطراد سنة الله تعالى في الملك والملكوت، ونرى أكثر علمائنا، بل أكثر الناس
يقولون إن العلم لا يوجب العمل، وقد نازع حجة الإسلام بلفظ (يوجب) بعض من
يوصف بالإمامة من العلماء الذين لم يفهموا كلامه لتقيدهم بالاصطلاحات الكلامية،
وقد صرح هو بأنه يريد بالعلم اليقين بأن الشيء ضار أو نافع، ولا شك أن اليقين
أو الرجحان عند تعارض اعتقادين في النفس هو الذي يملك على النفس أمرها،
ويبعث فيها وجدانًا يزعجها إلى العمل؛ وإنما نظر القوم إلى العلم التصوري أو
التصديقي الضعيف الذي تتنازعه الشكوك وتعارضه تصورات أو تصديقات أخرى
هي أقوى منه، فلا يصدر عنه أثره وإنما يصدر الأثر عن الراجح القوي كما
أوضحناه في مقالة عنوانها تأثير العلم في العمل (راجع العدد الثاني من المجلد
الثاني) .
ما قاله الإمام الغزالي صحيح؛ ولكن العلم الصحيح اليقيني بالمنافع والمضار
والمصالح والمفاسد عزيز في البشر، لا سيما مصالح الأمم والمِلَل، ثم إن إيداعه
في النفوس بالتعليم على وجه يغلب تأثير التقاليد والعادات، والتأثر بما ينافيه من
المسموعات والمشاهدات، أعز وأعسر، وأقل وأندر، فلابد من تعزيز والتعليم
بالتربية العملية، بل التربية هي الأصل والتعليم يمدها ويغذيها، ويثمرها وينميها،
وهذه الطريقة طريقة الدين فإنه بعد أن أشعر النفوس عظمة الله وسلطانه وفضله
وإحسانه شرع للناس أعمالاً ووضع لهم شعائر، كان لها السلطان الأكبر على
القلوب والضمائر، فكان إحياء وجدان وشعور، وبعث همم ونشور، مقرونًا بتعليم
قويم يهدي إلى الحق، وإلى طريق مستقيم.
شُرِّع الدين لإسعاد الأفراد في أنفسها، وإسعاد الشعوب في مجموعها؛ ولذلك
كان بعض أعماله عبادات تتعلق بتهذيب الأفراد، وبعضها شعائر تتعلق بالاجتماع
كأعمال الحج والعيدين وصلاة الجمعة والجماعة، وقد كان لهذه الشعائر تأثير
عجيب في الحياة الملية والاجتماعية، حيث لم تكن رسمًا صوريًّا يؤدى كما تؤدى
المغارم والديون على ما هي اليوم، وإنني لا أنسى ذلك الشعور الإسلامي الذي
يسوقني وأنا ابن بضع سنين إلى مسجد البلد الجامع لحضور صلاة التراويح وصلاة
الفجر، ولحضور الوعظ بعد العصر في رمضان، ولا أنسى تلك اللذة الروحية في
اجتماع الناس لهذه العبادات وأمثالها، لا سيما ارتفاع أصواتهم بالتكبير قبل صلاة
العيد، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد ...
هذا الشعور الذي يجده الصغير في نفسه بمقتضى الفطرة، ويفقده بعد أن
يعتاد هذه الأعمال من غير فهم إلا أن يتعاهد بتربية تجدد عنده في كل وطور من
أطوار العمر، فهما في هذه الشعائر يبعث فيه شعورًا يليق به، ولولا أن مَنَّ الله
تعالى عليَّ منذ تعلمت القراءة والمطالعة بعشق كتاب (إحياء علوم الدين) الذي هو
أعظم كتب علماء الإسلام تأثيرًا في النفوس - لصارت العبادة عندي عادة لا تأثير
لها، وإنما صرحت بهذا ليكون نفعه عامًّا.
ومن البلاء العظيم الذي نزل بالمسلمين التقصير في إقامة شعائر الإسلام على
أصلها، والتوسل بها إلى إحياء الشعور الملي، فقد نزعت روحها أولاً، ثم طرأت
الأمراض على صورها فغيَّرتها حتى عافها المترفون، وأعرض عنها الأكثرون،
وكأن الشعائر التي تبعث الشعور وتحرك ساكن الوجدان أمر طبيعي في الأمم؛
ولذلك لم يلبث المسلمون بعد ضعف شعائرهم أن استبدلوا بها شعائر أخرى سرت
إليهم من الأمم المخالطة؛ ولكنهم صبغوها بصبغة دينهم، ولوَّنوها بلون شرائعهم،
وهي الأعياد والمواسم التي يحتفلون بها عند قبور الصالحين، وفي بعض الأيام
الفاضلة فلهذه المواسم تأثير كبير في نفوس العامة، وهو شعور ديني لا يُنكر؛
ولكنه غير إسلامي وأبعدها من الإسلام أشدها تأثيرًا، وهو ما يسمونه الموالد
(راجع باب البدع) .
اتبع المسلمون في هذا سنن من قبلهم في الابتداع؛ فإن المسيحيين تركوا
أعياد اليهودية وهي ديانة المسيح وانتحلوا لأنفسهم أعيادًا أخذوها عن الوثنيين؛ فإن
عيد الميلاد المسيحي لم يُعرف عندهم إلا في القرن الرابع بعد المسيح، وعيد ميلاد
مريم اختُلف فيه، فقيل ابتُدع في القرن الخامس، وقيل في السابع، وقيل في
التاسع، وقيل في الحادي عشر، وعيد الشهداء لم يُعرف إلا في أواخر القرن
الرابع فكانوا يقرأون قصصهم، وتؤدى عندهم فرائض العبادة، وتذبح الذبائح،
ويولم الأغنياء الولائم، فيأكلون ويشربون ويلهون ويلعبون، وأما عيد الرسل فلا
ندري متى ابتُدع؛ ولكن له ذكرًا في حوادث القرن الرابع، وكانوا يحتفلون به في
رومية عند قبري بطرس وبولس.
قلنا: إن النصارى أخذوا أعيادهم هذه عن الوثنيين، ولوَّنوها بلون دينهم،
وهذا القول قد صرَّح منهم به كثيرون من رجال التاريخ، ورجال الدين، وصرحوا
بأنهم كانوا يعبدون الشهداء والرسل، وأن ذلك سرى فيهم بالتدريج كما قال
بيوسوبر في تاريخ المانيكيين، وجاء في قصة حياة غريغوريوس توماتورغوس:
أن غريغوريوس لما رأى الجماهير الجهلاء البسطاء متمسكين بأصنامهم لما فيها من
اللذات الحسية، أذن لهم في أعياد الشهداء القديسين أن يتلذذوا ويتنعموا رجاء أن
ينتقلوا بعد ذلك باختيارهم إلى حياة حسنى وطريقة مثلى. وفي (ريحانة النفوس
في الاعتقادات والطقوس) : (إن الذين انحازوا من عبادة الأوثان إلى الديانة
المسيحية إذ وجدوا بعض أمور في أعياد الشهداء تشبه ما كانوا معتادين عليه في
أديانهم الأولى، فقد نقلوا إليهم ذلك الإكرام الذي كانوا يقدمونه لآلهتهم) .
لو لم يوجد في النصارى من يؤول لهم عبادة الشهداء ونحوهم لما انتشرت
فيهم وعمت بلادهم، وإننا نذكر عبارة من تلك التأويلات لأجل تطبيق الحديث
الشريف، قال أغوستينوس: إننا نتعلم أن نكرم الشهداء لا أن نعبدهم، بل إنما
نعبد الله وحده الذي تعبده الشهداء؛ لأنه لا يجب أن نكون مثل الوثنيين الذين نحزن
عليهم لأنهم يعبدون الموتى من الناس، ثم أوضح هذا بقوله: إننا لا نتخذهم آلهة
ولا نعبدهم كآلهة؛ فإننا لا نعطيهم هياكل ولا مذابح ولا ذبائح ولا يقدم لهم الكهنة
القرابين، حاش لله فإن هذه الأمور إنما تعمل لله فقط اهـ. أقول: لكنهم باسم
التعظيم والتكريم الذي أذن فيه وجوَّزه قد قدموا لهم الذبائح وعبدوهم عبادة حقيقية،
وإن لم يسمها بعضهم عبادة، وهذا هو السبب في تشديد النبي صلى الله عليه وسلم
النكير على تعظيم القبور واتخاذها أعيادًا؛ ولكن هي سنة الكون تنتقل العادات
والتقاليد من بعض الملل إلى بعض كما في الحديث الصحيح (لتتبعن سنن من قبلكم
شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟)
تقلد الأمم بعضها بعضًا في الشعائر الدنيوية أيضًا؛ فإن أهل الغرب اتخذوا
لملوكهم أعيادًا لإحياء الشعور الوطني الذي يمثله رئيس الدولة في الملكية، وللدول
الجمهورية منهم أعياد باسم الحكومة التي يعتزون بها ويعززونها، وقد قلدهم
الشرقيون في الاحتفال بأعياد ملوكهم وأمرائهم لإرضائهم إذ كانوا لا وطن لهم ولا
وطنية، ولا دول عزيزة بملوكها قوية، ولا شك أن هذه الأعياد شعائر تبعث
الشعور بحب السلطان أو الأمير في نفوس الذين يعتقدون فيه النفع للدولة والأمة،
فينتفع بهذا المستبدون، ويغتر به المغترون، حتى يأتيهم العذاب من حيث لا
يشعرون.
يبلغ الشعور في أفراد الأمم العزيزة الحرة مبلغًا يُعَدُّ من الخوارق في نظر
الأمم المريضة المستعبَدة، فقد كثر في هاتين السنتين عدد المجانين في إنكلترا وقال
نطس الأطباء إن سبب ذلك الانفعال الشديد لخذلان الدولة في حرب الترانسفال،
وما دفع البوير إلى الاستبسال في ساحات الوغى إلا الشعور القوي بألم الاستعباد
المتوقع الذي استوى فيه النساء مع الرجال، فكن عونًا لهم في ميادين القتال،
فليعتبر قومنا إن كانوا يشعرون، أو ليموتوا ليحيى الأمراء والحاكمون. نعم قد دب
فيهم شيء من الشعور نفرد له مقالة في جزء آخر.