للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فلسفة وعرفان في الصيام والإيمان

الصوم والناس. العبادة. معرفة الله. البعث. جاهلية المدنية الأوربية.
التكوين حسب العلم العصري الموافق للقرآن. الحياة والبقاء. الأرواح. الحاجة
إلى الدين. الإسلام والمدنية. شكوى المسلمين. دعوة المرتابين إلى الحق.
أقبل شهر الصيام فرحَّب به المؤمنون، وتبرَّم منه المنافقون، واستهان به
الزنادقة المارقون، فالمؤمن في صيام وصلاة، وصلة وزكاة، وبِرٍّ ومواساة،
وعكوف على كتاب الله، والمنافق في كذب ومداجاة، وإسرار يخالف ما أظهره
وأبداه، يستخفي بإفطاره من الناس ولا يستخفي من الله، كأنه لا يعلم أنه يبصره
حيث كان ويراه، والمارق المرتد يجاهر بالإفطار، وتُمد له الموائد في نصف
النهار، فيأكل الطعام ويشرب العقار، ويفجر مع أمثاله من الفجار، ضلال مع
إصرار، لا ندم يعقبه ولا استغفار أولئك هم الفاسقون {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ
كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} (التكاثر: ٣-٤) .
{قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ
السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ * كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} (عبس: ١٧-٢٣) أمره بالصلاة فكسل، وأمره بالزكاة فبخل، وأمره بالصوم
فشرب وأكل، ولو عرف الله لآثر طاعته على شهوته وهواه، ولو عرف نفسه
لعرف ربه، وابتغى رضوانه وقربه، وارتقى بذلك عن اللذة الحسية البهيمية، إلى
اللذة الروحانية الإنسانية، فصلى طلبًا لمرضاته، وتلذذًا بمناجاته، وصام ابتغاء
وجه ربه الأعلى، الذي يعلم الجهر وأخفى {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الحُكْمُ
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (القصص: ٨٨) .
نعم لكل موجود ممكن وجهان، وجه إلى عالم الكون والفساد الذي تفنى عن
قريب صوره، ويمحى أثره، ووجه إلى الوجود الحق الذي استفاد وجوده من
وجوده، واستمد ما به بقاؤه من كرمه وجوده، إذ هو {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ
ثُمَّ هَدَى} (طه: ٥٠) {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن
مَّنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ
ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أن يُحْيِيَ المَوْتَى} (القيامة: ٣٦-٤٠) .
بلى إن الكيماوي يحلل بعض الأجسام المركبة ويرجعها إلى عناصرها
البسيطة، فتراها قد فنيت وتلاشت، ثم يعيدها بالتركيب إلى شكلها الأول فتراها
خلقًا جديدًا، هذا والكيماوي رجل مثلك يشكو الجهل والضعف {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ
العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء: ٨٥) أفرأيت الحي الذي استمد الحياة منه كل الأحياء،
القيوم الذي قامت بقدرته الأرض والسماء، يعجز عن فعل ذلك بك وهو الفعَّال
لما يريد {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} (ق: ١٥) .
هؤلاء الزنادقة المرتابون في النشأة الأخرى الذين تركوا الصوم والصلاة
واتبعوا الشهوات يتوكأون في هذا العصر على العلم الطبيعي في ارتيابهم أو
جحودهم، وهم أعرق في الجهل به من أمثالهم في زمن الجاهلية الأولى؛ فإن
علمهم الطبيعي ينطق بأن العدم المحض مُحال، وأن الإعدام والإيجاد إبطال صور
وأشكال وتجديد صور وأشكال، وأن هذه الكواكب السماوية، وهذه الأرض كانت
كلها مادة واحدة منتشرة كالدخان والهباء، ثم انفتق رتقها فكانت أجرامًا كروية
متعددة، ثم نشأ في هذه الأرض وهي إحداها ما نراه فيها من العوالم الحية وغير
الحية، وكان كل ذلك الإبداع والإحكام بترتيب كامل ونظام يدل على أنه صادر عن
علم وحكمة وإرادة وقدرة {أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً
فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ} (الأنبياء: ٣٠) .
عرفوا قليلاً من ظواهر أشكال هذه المخلوقات وقواها وخواصها، وعرفوا أن
أعلاها وأكملها المخلوقات الحية، وأن أكمل الأحياء منها الإِنسان، أفلا يدلهم هذا
على أن الحياة التي بها قوام أكمل المخلوقات هي أكمل الموجودات، وعلى أن
كمالها في مراتب الوجود بالنشوء والارتقاء يدل على رسوخها فيه؟ وإذا عرفوا هذا
وضموه إلى علمهم بأن أجزاء المادة التي لا حياة لها لا تقبل عدم المحض؛ وإنما
تنحل منها صورة فتدخل أجزاؤها في تكوين صورة أخرى من المخلوقات الحية،
ألا ينتج لهم مجموع هذه المعارف أن الحياة التي تلابس المادة الميتة فتجعلها خلقًا
جديدًا ينمو ويرتقي أجدر بالبقاء، وأولى بالارتقاء لا سيما هذا الإنسان الذي هو
أكمل ما في هذه الأكوان، بلى {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا البَلَدِ
الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ
بِأَحْكَمِ الحَاكِمِينَ} (التين: ١-٨) .
حياة الأحياء معلومة بالضرورة لا تحتاج إلى دليل، وإن ما به الحياة مجهول
في كنهه وحقيقته معلوم بأثره، وإن أكمل مراتب الحياة وأعلى درجاتها هو ما كان
من أثره العلم والحكمة والإرادة، وهو ما يسمى باللغة العربية روحًا، وإن أفراد
الأرواح متفاوتة في الارتقاء، كما أن أنواع جنسها - وهو ما به الحياة - متفاوتة
كما قلنا آنفًا، وإن أعلى الأرواح رتبة وأكملها هو ما كانت علومه ومعارفه أعلى
وأكمل، وإن أكمل المعارف والعلوم هو ما كان موضوعه أعلى وأكمل، وأثره أنفع
وأفضل، وإن ذلك هو معرفة الله تعالى الذي منه مبدأ كل هذه الوجودات وإليه
مرجعها إذ هو الحي القيوم بنفسه الذي حيي وقام به غيره؛ لأن قيام الأشياء وثبوتها
وحياة الحي منها لم يكن بالمصادفة والاتفاق، ولا يصح أن يكون علة لنفسه لئلا
يكون سابقًا عليها، ولا أن يكون سببه عدميًّا؛ لأن العدم لا يُتَصَوَّر فكيف يخلق
ويُصَوِّر؟ وَيَلي معرفة الله تعالى معرفة سننه في خلقه وشرائعه التي يصلح بها أمر
عباده في أرواحهم وأجسادهم، وهي ما يسمى العمل بها عملاً صالحًا؛ وإنما
صلاحه بكونه أنفع للناس وأفضل كما ثبت بالنظر والتجربة، ولهذا جعل تعالى
الفلاح وهو الفوز بسعادة الدنيا والآخرة مقرونًا بالإيمان، وهو معرفة الله تعالى
بالعمل الصالح الذي به تصلح النفوس والشؤون {قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ
فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (المؤمنون: ١-٢) الآيات.
إذا تسنَّى للإنسان أن يعرف بطول الزمان وتقلب الحدثان ما به تصلح شؤونه
الدنيوية في أفراده ومجموعه من غير أن يسترشد بالوحي الذي هو تعليم يفيض من
عين الكرم والفضل على بعض الأرواح العالية التي يُعدَّها الله لذلك فهل له من
سبيل إلى معرفة ما يصلح به الروح ليرتقي بذلك إلى حياة أعلى من هذه الحياة؟
فإنه يعتقد بأن العدم محال، وأن الارتقاء سنة من سنن الوجود، ثم إن كل فرد من
أفراده يوقن من ذلك بأن وجوده الحاضر سيبطل ويفنى، أفلا يتعين عليه إذن أن
يؤمن بنشأة أخرى وحياة ثانية كما أخبر النبيون والمرسلون {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ
عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} (المؤمنون: ١١٥) .
الحق أقول: إن الإنسان كان قريبًا من العجماوات، وإنه لم يصعد في مراقي
الوجود بهذا التدريج البطيء إلا بهداية أفراد خصهم البارئ الحكيم بالإلهام الصحيح
والوحي إليهم روحًا من أمره أقدرهم به على هداية الناس في كل طور بقدر
استعدادهم، وإن هؤلاء الأوربيين الذين يتوهمون هم ومقلدوهم المخدوعون بمدنيتهم
أنهم وصلوا إلى ما وصلوا إليه من معرفة المصالح والمنافع في شؤون الحياة الدنيا
بأنفسهم، من غير استرشاد بشيء من الوحي قد كذبوا في وهمهم وضلوا في
حسبانهم؛ فإنهم ما وصلوا إلى ذلك إلا بعدما اقتبسوا من الدين أصوله ومبادئه
وكثيرًا من فروعه ومقاصده، واعتبروا بتاريخ الإنسان أيام لا هادي له إلا الدين،
وقد صرح بعض فلاسفتهم بأنهم أخذوا استقلال الفكر واستقلال الإرادة من الإسلام،
وهما أصل كل تقدم ونجاح، وكذلك الاعتبار بسنن الكون ونواميس الطبيعة
والاعتماد على ثباتها وعدم تغييرها ولا تحويلها فهو مأخوذ من القرآن، وإن لم
يهتد به كما يجب أهل القرآن، وقل مثل ذلك في الحكومة الشوروية، وجعل
الحكومة بمعرفة الأمة وتحت سلطتها فهذا أصل ارتقائهم السياسي، كما أن ما قبله
أصل ارتقائهم العلمي، وهو مأخوذ من الإسلام وإن لم يعمل به المسلمون حتى
صاروا حجة على دينهم، وعلى كل دين كما تقدم بيانه في المنار مرارًا.
إذا كان كل خير أصابه الإنسان في دنياه متصلاً نسبه بهداية الدين فهل
يستغني هذا الخلق الضعيف عن إرشاد الدين فيما يتعلق بحياته الأخرى، أليس له
في هذه الحياة حواس ومشاعر يستعين بها في شؤونها، وليس له مثل ذلك في إعداد
نفسه وتأهيلها لتلك؟ فتبصر يا من أغواه التفرنج في أمرك، واعلم أنه قد دلاك
بغرور، وقذفك في تَيْهُور واستعبدك للشهوات، وهبط بك إلى دركة الحيوانات،
ففسد بأسك، وضاع وطنك وجنسك فخسرت الدنيا والدين، وذلك هو الخسران
المبين.
أنت تشكو من سوء الحال وضياع الاستقلال واختلال الأعمال، وتلتمس لذلك
الأسباب وتطرق للخروج منه كل باب؛ ولكن الانغماس في الشهوات جعل على
عينيك غشاوة، وفي سمعك وقرًا، فأنت الآن لا تسمع ولا ترى، فإن استطعت أن
تكسر من سَوْرة هذه الشهوات وتفل من حدها وتتفلت من عُقُلها، وتنطلق من
قيودها، فتكون إنسانًا مستقلاً، فحيتئذ يسهل عليك أن تعرف كيف ذلت أمتك بعد
عزها وضاعت بلادها بعد منعتها، ويسهل عليك السعي في تلافي ذلك، ولا سبيل
لك إلى الخلاص من ذلك الرق والاستعباد إلا بالدين، فارجع إليه وأقم أركانه وشيِّد
بنيانه، وها أنت ذا في الشهر الذي شرعه الدين لتأديب الشهوات، والتغلب على
العادات وجعل النفس الأمارة بالسوء خادمة مأمورة، وملكة الرذائل والشرور أَمة
خاضعة مقهورة.
شرعتُ في الكتابة قاصدًا بيان فضل الصائمين، والنعي على المفطرين من
المسلمين الجغرافيين، ثم بدا لي أن المسلم لا يفطر في رمضان عامدًا متعمدًا إلا إذا
كان مرتابًا في أصل الدين، غير مؤمن باليوم الآخر، ولهذا أطلت فيه المقال
بالنسبة إلى هذا المقام، فمن كان مؤمنًا بالله واليوم الآخر، مسلِّما بالدين، عالمًا أن
فيه الفلاح والسعادة، واسترجاع ما فقدنا من السلطان والسيادة، فليؤدب بالصوم
نفسه، ويكتسب به ملكة الحكم عليها، فبذلك يحفظها في الدنيا من أكثر الأمراض؛
لأنها تنشأ من الإفراط في الشهوات، ويتبع هذا حفظ العِرض والمال والاستعانة
على تربية الأولاد، ويحفظها في الآخرة بما يعطيه الصوم من النور الروحاني
بمراقبة الله تعالى وحبه، والرغبة في رضوانه وقربه، وبما في الصوم من تهذيب
النفس وتزكيتها وإعدادها بهذا الترقي المعنوي لنعيم ذلك العالم الأخروي، وقد بيَّنا
منافع الصوم الروحية والجسدية في مقالتين نشرتا في المجلد الثاني من المنار تحت
عنوان (الصيام والتمدن) فليراجعهما من شاء (ص ٦٧٣ و ٦٩٥) .
ومن كان في شك من دينه فعليه أن يطيل البحث والسؤال من غير مراء ولا
جدال، ولا يغرنه ترك أئمته الأوربيين للدين؛ فإن الدين الذي تركوه ليس دين
زمنهم، ولم يكونوا يعرفوه على وجهه الذي كان عليه المسيح عليه السلام؛ لأن
دين المسيح هو دين اليهود ما نسخ على لسانه إلا قليل من أحكامه، وزاد فيه بعض
حكم ونصائح، فكان ممهدًا بذلك للدين العام الذي كان أهم وظائفه البشارة به،
والذي قال عن صاحبه أنه روح الحق الذي يبين للناس كل شيء، ولا يغرنه أيضًا
سوء حال المسلمين المخذولين الفاسدي الأخلاق؛ فإنه ليس لهؤلاء من الإسلام إلا
الاسم، ولا حظ لهم من كتابه إلا التبرك بالتلاوة والرسم، فهم بعدم القيام بحقوق
القرآن كالذين قال الله تعالى فيهم: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ
الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ
الظَّالِمِينَ} (الجمعة: ٥) والمنار قد بيَّن بعدهم عن الإسلام في جميع أجزائه،
فنقم عليه بعضهم أنه يعيب المسلمين وعذره في ذلك أنه يعظم الإسلام ويمدحه
ويبين حقيقته، وهذا يتوقف على الإزراء بمن أهانوه بانتسابهم إليه، حتى نفَّروا
الناس منه.
في الإيمان سعادة الآخرة وسعادة الدنيا، فيا أيها الشاكون، ويا أيها الجاحدون
تعالوا أبين لكم الحق، وأكشف لكم الشبهات عن وجهه، لا تَهْلِكُوا وتُهْلِكُوا أمتكم
بالأسوة السيئة، اتقوا الله في أنفسكم، وفيمن تجرِّئونهم على هدم أركان الإسلام
وانتهاك حرماته، وخذوا بالاحتياط إن كنتم تعقلون.