للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأمراء والحكام ونوع الحكومة الإسلامية

(ننشر في هذا الباب ما يعرف به المسلمون أصل مدنيتهم
ومنشأ سعادتهم التي ذهبت بتركه)
(١) قال صلى الله عليه وسلم: (من استعمل عاملاً من المسلمين وهو يعلم
أن فيهم أولى بذلك منه، وأعلم بكتاب الله وسنة نبيه، فقد خان الله ورسوله وجميع
المسلمين) [١] فهل أمراؤنا وعمالنا أعلمنا بالكتاب والسنة.
(٢) وقال صلى الله عليه وسلم: (السمع والطاعة حق على المرء المسلم
فيما أحب أو كره ما لم يُؤمر بمعصية، فإذا أُمر بمعصية فلا سمع عليه ولا
طاعة) [٢] ، أفلا يكفر أكثر المسلمين اليوم من يدعوهم إلى العمل بهذا الحديث المتفق
عليه.
(٣) وقال صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لأحد في معصية الله؛ إنما
الطاعة في المعروف) [٣] .
(٤) وقال صلى الله عليه وسلم: (من أرضى سلطانًا بما يُسْخِط ربه خرج
من دين الله) [٤] .
(٥) (استقيموا لقريش ما استقاموا لكم، فإن لم يستقيموا لكم، فضعوا
سيوفكم على عواتقكم، ثم أبيدوا خضراءهم) [٥] أليست هذه سيطرة فعَّالة للأمة
على الأمراء والحكام، فمن أين جاءت السلطة المطلقة في الإسلام؟
أليس ملوك المسلمين أولى بأن يعاهدوا الأمة عند المبايعة على تحكيمها في
دمائهم إذا خالفوا شريعتها من ملوك الإنكليز الذين يبيحون لمجلس الأمة دماءهم إذا
خالفوا قوانين البلاد وتقاليدها المتبعة؟ بلى لأن المسلمين ملزمين بالعمل بالشريعة
وتقييد السلطة للدين والدنيا معًا بخلاف أولئك.
(٦) وقال صلى الله عليه وسلم: (اسمعوا هل سمعتم؟ سيكون بعدي
أمراء - في غير هذه الرواية هنا زيادة: يكذبون ويظلمون - فمن دخل عليهم
فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، وليس بوارد على
الحوض، ومن لم يدخل عليهم ولم يعنهم على ظلمهم ولم يصدقهم بكذبهم فهو مني
وأنا منه وهو وارد على الحوض) [٦] .
(٧) وقال صلى الله عليه وسلم: (سيكون عليكم أئمة يملكون أرزاقكم
يحدِّثونكم فيكذِّبونكم، ويعملون فيسيئون العمل، لا يرضون منكم حتى تحسنوا
قبيحهم، وتصدقوا كذبهم، فاعطوهم الحق ما رضوا به، فإذا تجاوزوا فمن قُتل
على ذلك فهو شهيد) [٧] فانظروا كيف حكَّم الأمة بالأئمة والأمراء، وجعلها هي
المعطية وهي المانعة، وأمرها بالخروج عليهم إذا لم يرضوا بالحق، وعَدَّ المقتول
في هذا السبيل شهيدًا، فهل يقول أحد بعد أن نوع الحكومة في الإسلام غير
معروف؟ ألا يجب تربية الأمة على الاستقلال لتقيم به هذه الركن.
***
آثار السلف عبرة للخلف
الخطبة الأولى للخليفة الأول رضي الله عنه
لما بويع أبو بكر - رضي الله عنه - صعد المنبر فنزل مرقاة من مقعد النبي
صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أما بعد أيها الناس فقد وليت
عليكم ولست بخيركم لوددت أن قد كفاني هذا الأمرَ أحدُكم.
اعلموا أيها الناس أن أكيس الكيس التُّقى، وأن أحمق الحمق الفجور، إلا أن
الصدق عندي الأمانة، والكذب الخيانة، وأن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له
بحقه، وأن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه؛ إنما أنا متبع ولست بمبتدع
فإن أحسنت فأعينوني وإن زغت فقوِّموني، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، ولا
يدع قوم الجهاد إلا ضربهم الله بالفقر، ولا ظهرت الفاحشة في قوم إلا عمُّهم الله
بالبلاء، فأطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم،
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وفي رواية: قوموا إلى صلاتكم [٨] ) .
قوله رضي الله عنه (وإن زغت فقوِّموني) قد اقتدى به عمر بن الخطاب
رضي الله عنه من بعده في عبارته المشهورة (من رأى منكم في عوجًا فليقوِّمه)
وعثمان رضي الله عنه في قوله (أمري لأمركم تبع) وقد روي عنهم مثل هذا كثيرًا
وكان يوعظون قولاً وكتابة فيحمدون من يعظهم ويأمرهم بالخير، على هذا بُنيت
الخلافة الإسلامية، فهدم ركنها بنو أمية وحاولوا جعل السلطة مطلقة أو استبدادية،
وساعدهم مَن بعدهم على ذلك بالتدريج، وساعد الملوك بعض الفقهاء فجعل لهم من
السلطة والتصرف المطلق ما لم يجعله لهم الدين، وكان أول من جاهر بالمنع من
نصيحة الملك أو الخليفة جهرًا عبد الملك بن مروان فقد قال على المنبر: (من قال
لي اتق الله ضربت عنقه) فضعف بهذا أمر الشورى، وبطلت سيطرة الأمة على
أمرائها فاستبدوا وجعلوا بأس الأمة بينها شديدًا، وحارب بعضهم بعضًا لأجل
الفتوح والغلب وإزالة سلطة وإدالة أخرى منها حتى حَلَّ بالمسلمين ما هم فيه من
البلاء المبين.
***
الخطبة الأولى للخليفة الثاني رضي الله عنه
عن سعيد بن المسيب قال: لما وُلِّي عمر بن الخطاب خطب الناس على منبر
رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أيها الناس إني
علمت أنكم كنتم تؤنسون مني شدة وغلظة، وذلك أني كنت مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم وكنت عبده [٩] وخادمه، وكان كما قال الله تعالى: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ
رَّحِيمٌ} (التوبة: ١٢٨) ، فكنت بين يديه كالسيف المسلول إلا أن يغمدني أو
ينهاني عن أمر فأكف، وإلا أقدمت على الناس لمكان لينه، فلم أزل مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم على ذلك حتى توفاه الله وهو عني راض، والحمد لله على
ذلك وأنا به أسعد، ثم قمت ذلك المقام مع أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه
وسلم وكان كما قد علمتم في كرمه ودَعَته ولينه، فكنت خادمه كالسيف بين يديه أخلط
شدتي بلينه إلا أن يتقدم إلي فأكف وإلا أقدمت، فلم أزل على ذلك حتى توفاه الله وهو
عني راضٍ والحمد لله على ذلك كثيرًا وأنا به أسعد.
ثم صار أمركم إليّ اليوم وأنا أعلم، فسيقول قائل كان يشتد علينا والأمر إلى
غيره، فكيف به إذا صار إليه، واعلموا أنكم لا تسألون عني أحدًا فقد عرفتموني
وجربتموني وعرفتم من سنة نبيكم ما عرفت، وما أصبحت نادمًا على شيء أكون
أحب أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه إلا وقد سألته، فاعلموا أن شدتي
التي كنتم ترون قد ازدادت أضعافًا إذا صار الأمر إليّ على الظالم والمعتدي،
والأخذ للمسلمين لضعيفهم من قويهم، وإني بعد شدتي تلك واضع خدي بالأرض
لأهل العفاف والكف منكم والتسليم، وإني لا آبى إن كان بيني وبين أحد منكم شيء
من أحكامكم أن أمشي معه إلى من أحببتم منكم، فلينظر بيني وبينه أحد منكم،
فاتقوا الله وأعينوني على أنفسكم بكفها عني، وأعينوني على نفسي بالأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحضاري النصيحة فيما ولاني الله من أمركم. ثم
نزل) [١٠] .
وعن الحسن قال: إن أول خطبة خطبها عمر حمد الله وأثنى عليه ثم قال:
(أما بعد فقد ابتليت بكم وابتليتم بي، وخلفت فيكم بعد صاحبي فمن كان بحضرتنا
باشرناه بأنفسنا، ومهما غاب عنا وليناه أهل القوة والأمانة فمن يحسن نزده حسنًا،
ومن يسئ نعاقبه، ويغفر الله لنا ولكم) [١١] .
فانظر كيف وطَّن نفسه على قبول تحكيم من يريدون منهم إذا كان لأحد عليه
حق، وكيف وطنها على قبول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا وفق الله
أمراءنا وحكامنا للاهتداء بهديهم والسير على سنتهم؛ فإن الدين يعتز بالخلف كما
اعتز بالسلف، ونكون من المفلحين، وظاهر أن هذين الخليفتين العادلين ما سارا
هذه السيرة من أنفسهما؛ وإنما تعلماها من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أدلة
ذلك الأحاديث السابقة ومثلها كثير.
((يتبع بمقال تالٍ))