للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


نساء المسلمين [١]

ملخص محاورات بين الكاتبة الفاضلة فاطمة علية هانم كريمة العلامة جودت
باشا أحد وزراء الدولة العلية رحمه الله تعالى، وبين بعض نساء الإفرنج
السائحات.
ابتدأت الكاتبة هذه المحاورات بمقدمة في الطور الجديد الذي دخل فيه العالم
من الاجتماع وسهولة المواصلات والعناية بالسياحة، وذكرت أن السائحين من
الإفرنج يعنون بمعرفة أحوال المسلمين، كما هو شأنهم في العناية بكل شيء، وأنها
علمت من محاورات نساء الإفرنج ومما كتبوه من قصص السياحات أنهم يُخطِئون
ويَهمون كثيرًا في اعتقادهم في نساء المسلمين وبيوتهم، وأن السبب في ذلك عدم
إمكان اجتماع السائحين بالنساء المسلمات، وكون السائحات قلما يجتمعن إلا بالنساء
التركيات اللواتي تربين تربية إفرنجية بمعرفة المربيات المعروفات بلقب
(أنستيتوتريس) قالت: (فهؤلاء التركيات قد تعلمن اللغة الفرنسوية لا لأجل اكتساب
المعارف والعلم؛ ولكن ليكن أوربيات خالصات، فبجهلهم بالدين ونبذهم العادات
الملية ظهريًّا كان الحديث معهن كالحديث مع أهل البيوت الإفرنجية في بك أوغلي -
قسم من الآستانة يسكنه الإفرنج - فلا يستفيد السائح منهن الحقيقة؛ فإنهن إذا سُئلن
عن أحوال المعيشة الإسلامية يسكتن عن بيان استقامة الدين وطهارته، ويُفضن في
الكلام بحدة وشدة على مسائل الحجاب، فيكن بجهلهن سببًا في طعن الأجانب في
الدين الذي استنرنا بمشكاته وتشرفنا بآياته) .
قالت: وإن من أهل البيوت الإسلامية من يظن أن في تعليم النساء العلوم
والمعارف إثمًا، فلا يخصون بالإنكار تعلم اللغة الفرنسوية؛ وإنما ينكرون ما زاد
على الضروري من اللغة التركية أيضًا، ولعمر الحق إن هؤلاء لا يعلمون ما بلغ
إليه الأزواج المطهرات والبنات الزاكيات، وكثير من العالمات الأديبات في الصدر
الأول للإسلام من رفيع الدرجات في العلم والفضل.
إن كشف وجوه النساء غير محرم شرعًا، وإنما الواجب عليهن ستر
شعورهن؛ ولكننا نرى بعضنا يعكس القضية، فيسترن الوجه ويكشفن عن الشعر،
فالحد الوسط مفقود عندنا فنحن بين أمواج الحيرة لا ندري أين تقذفنا، ولا شك أن
الخير في الاعتدال في جميع الأحوال وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
والواجب على السياح الراغبين في الوقوف على الحقائق أن يتعرفوها من
أهل البيوت العائشين على الأصول الإسلامية، المحافظين على دينهم وعاداتهم
الملية، العارفين مع ذلك اللغة الفرنسوية، لا من المترجمين الذين يجيبون عن كل
ما يُسألون عنه، وإن كانوا لا يعلمون.
ومعلوم أن الأوربيين لا يعترضون على شيء من أحكام ديننا الموافقة للعقل
والحكمة؛ وإنما يتخيلون ويظنون أن نساء المسلمين مظلومات مهضومات،
فيبالغون في المؤاخذة على ذلك، وقد اطلعت على أوهامهم في أثناء محاوراتي
لبعض السائحات الوجيهات، ورأيت نفسي مضطرة إلى بيان ما دار بيننا في ذلك
على الوجه الآتي:
المحاورة الأولى
في يوم من شهر رمضان الشريف أُخْبِرْنَا أن نبيلة أوربية تدعى مدام ف ...
وراهبة زاهدة ترغبان مشاهدة طعام الإفطار في منزلنا، وفي أصيله جاءتا، وبعد
أن طافتا في حديقة الدار الخارجية نصف ساعة استأذنتا في الدخول فذهبت
لاستقبالهما؛ لأن وظيفة الترجمة في الدار مفوضة إلى هذه العاجزة وصحبني
جاريتان لتحملا ردائيْ الزائرتين ومظلتيهما.
وعند دخولهما حييتهما باللغة الإفرنسية وصافحتهما، ومدت يدها مدام ف..
إلى الجارية التي كانت بجانبي لتصافحها، فلم يكن من الجارية إلا أن أخذت المظلة
من يدها، وهذه الجارية هي رئيسة الخدم عندنا، وأخذت الجارية الأخرى ردائيهما
وبرطلتيهما، ودخلنا بهما إلى غرفة الضيوف، ثم عرفتهما بربة البيت وأفراده
حسب العادة المتبعة وقدم إليهما الحلوى والقهوة على النسق التركي. وذكرت الكاتبة
هنا سنهما وعدم زيارتهما الآستانة من قبل.
ثم إن مدام ف.. طلبت أن ترى غرفة مفروشة على الطراز التركي،
فعجبت أنها لم تر فيها غير مقعد بسيط، ثم رغبت إليَّ أن أطوف بها على سائر
الغرف ففعلت مظهرة لها الارتياح لذلك، وفي أثناء ذلك التفتت إلى رئيسة الخدم
وكانت واقفة أمامها وقالت: إنني عند الدخول مددت يدي لهذه السيدة فلم تقبلها؛
وإنما أخذت المظلة من يدي وأراها الآن واقفة لا تجلس معنا فما سبب ذلك؟ قلت:
إنها جارية، قالت: وما شأن البنات اللواتي بالقرب منها؟ قلت: هن مثلها.
ف.. حسن جدًّا؛ ولكنني أيتها السيدة أرى في أذنيها قرطين ثمينين، وفي
إصبعها خاتمًا، وعلى صدرها ساعة جميلة وسلسلة حسنة، وكنت حسبتها سيدة،
وقد أدهشني امتيازها بالحلي على غيرها من الجواري، فهذه الفتاة الواقفة في
الجانب الآخر لا تتحلى إلا بقرط ليس بذي قيمة، وهذه الجارية الأخرى ليس لها إلا
ساعة عادية فما سبب هذا التفاوت.
أنا: إن الجارية التي حسبتِها سيدة هي رئيسة الخدم عندنا، أي أنها بمنزلة
مديرة لسائر الجواري تعلمهن القيام بشؤونهن وخدمة أنفسهن في اللباس والنظافة
والزينة حتى يحسنَّ ذلك بأنفسهن، وربة البيت تلقي تبعة كل تقصير منهن عليها،
وقد أهداها سيدها ما ترين من الحلي لكثرة خدمتها، وهي تعلمت من رئيسة كانت
قبلها، وهذه الجارية الفتاة جاءتنا وهي بنت أربع، ولها عندنا عشر سنين، ولما
تُكَلَّف بعمل، وستُكَلَّف بعد اليوم، وهذان القرطان قد اشترتهما مما اقتصدته من
مرتبها الشهري، وكذلك صاحبة الساعة، وهي أحدث عهدًا من هذه.
ف.. متعجبة مستأذنة في طلب التفصيل: أين رئيسة الخدم السابقة؟
أنا: قد انتهت وظيفتها، وقد زوجناها ولها ثلاثة أولاد وهي في بيت زوجها.
ثم سألت ف.. عن انتخاب رئيسة الخدم، وعن الرواتب للجواري والهدايا
للقديمات، وعن كيفية ابتياعهن، وسنبين في الجزء الآتي الجواب عن الأخير؛
لأنه كان تمهيدًا للبحث في الرق والإماء والتسري وغير ذلك من الفوائد.
((يتبع بمقال تالٍ))