للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


طهارة الأعطار ذات الكحول
والرد على ذي فضول
(تتمة)

ذكرنا في الجزء الماضي ثلاثة أمور مما يتعلق بموضوعنا من رسالة مختار
بك المؤيد وهاؤم الباقي.
(٤) دعواه الإجماع على أن الصلاة لا تصح من متنجس البدن أو الثوب
أو المصلى، وما أسهل دعوى الإجماع على مثله، قال في نيل الأوطار ما نصه:
(وهل طهارة ثوب المصلي شرط لصحة الصلاة أم لا؟ فذهب الأكثر إلى أنها
شرط وروي عن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وهو مروي عن مالك
أنها ليست بواجبة، ونقل صاحب النهاية عن مالك قولين أحدهما إزالة النجاسة سنة
وليست بفرض، وثانيهما أنها فرض مع الذِّكر ساقطة مع النسيان، وقديم قول
الشافعي أن إزالة النجاسة ليست بشرط، ثم أورد ما استدل به الجمهور على
الشرطية وبيَّن عدم صحة الاستدلال؛ لأن ما كان من حديث صحيح في ذلك فهو
آمر بإزالة النجاسة أو مرشد إليها بالعمل من غير ذكر ما يفيد أنها شرط للصلاة
كالآية الكريمة {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (المدثر: ٤) إلا حديث (تعاد الصلاة من قدر
الدرهم من الدم) ولو صح لكان مفيدًا للشرطية؛ لكنه باطل لأن في إسناده روح بن
غطيف وقال ابن عدي وغيره: إنه تفرد به وهو ضعيف، وقال الذهلي: أخاف أن
يكون موضوعًا، وقال البخاري حديث باطل، وقال ابن حبان: موضوع، وقال
البزار: أجمع أهل العلم على نكرة هذا الحديث، قال الحافظ ابن حجر: وقد أخرجه
ابن عدي في الكامل من طريق أخرى عن الزهري لكن فيها أبو عصمة وقد اتهم
بالكذب.
وقد استدلوا على الشرطية بما هو حجة عليهم كحديث خلع النبي صلى الله
عليه وسلم نعله في الصلاة؛ لأنه علم أن بها خبثًا، وهو يدل على عدم الشرطية
لأنه لم يستأنف الصلاة، والشرط ما يلزم من عدمه عدم المشروط، ومنها حديث
أمره عليه السلام بغسل لمعة الدم من الكساء بعدما صلى فيه، ولو كانت طهارة
الثوب شرطًا لإعادة الصلاة، وقد قال الإمام الشوكاني بعدما أورد أدلة الجمهور
وأعلَّها ما نصه: (إذا تقرر لك ما سقناه من الأدلة فاعلم أنها لا تقصر عن إفادة
وجوب تطهير الثياب فمن صلى وعلى ثوبه نجاسة كان تاركًا لواجب، وأما أن
صلاته باطلة كما هو شأن فقدان شرط الصحة، فلا؛ لما عرفت اهـ.
(٥) إنكاره على المنار القول بأن الكحول لم يكن موجودًا في زمن التشريع
وأزمنة الأئمة الأربعة فينص فيه على شيء، وزعمه أن ذلك دعوى بغير دليل،
وإن عدم ذكره ليس دليلاً على طهارته، وما كتبه المؤلف العامي في هذا المقام دليل
على أنه لم يفهم كلام المنار؛ فإننا لم نستدل بعدم ذكر الأئمة له على طهارته،
وإنما أردنا أنه ليس فيه عنهم نص فيأخذ به مقلدهم فهو على أصل الطهارة، وما
قاله بعض المقلدين من المتفقهة المعاصرين في نجاسته فمردود بالوجوه التي
ذكرناها في المنار.
(٦) إنكاره تعليل المنار عدم وجود الكحول في زمن التشريع بعدم وجود
الكيمياء، وقوله إن الأحكام الشرعية لا تتوقف على وجود هذا العلم، ثم استدلاله
على وجوده بوجود علم الطب والتصوير عند الشعوب المتمدنة (كذا) وهذا اللغو
أيضًا من سوء الفهم؛ فإننا نحن الذين صرحنا بأن الأحكام الدينية لا تبنى على
المسائل الكيماوية، وعنصر الكحول لم يُعرف إلا من الكيمياء، واستدلاله بالطب
والتصوير على وجود علم الكيمياء في زمن التشريع من أغرب ما يحتج به من
يفتحر الكلام افتحارًا، ولو كان يعلم كما نعلم أن علم الكيمياء الحديث من اختراع
جابر بن حيان الصوفي المتوفى سنة ١٦١ لملأ الدنيا لغطًا وتبجحًا؛ لأن زمنه زمن
الأئمة المجتهدين؛ ولكن صاحب الفهم السليم يعلم أن ذلك لا ينافي كلامنا، وأما
الكحول فالذي اكتشفه هو أبو بكر الرازي الفيلسوف الطبيب المتوفى ٣١١ أي بعد
الأئمة المجتهدين، ويعترف لنا فلاسفة الإفرنج بهذا السبق، ولم يكتشفه الأطباء
والمصورون الأقدمون كما زعم المؤلف العامي.
(٧) زعمه سقوط استدلال المنار على أن نجاسة الكحول لا يصح أن تؤخذ
من اللغة؛ لأنه ليس قذرًا قال: (فأي قذارة في الخمر والميسر والأنصاب والأزلام
التي أمرنا الله بالنص باجتنابها) ... إلخ، ونحن قد سبقناه إلى القول بأن رجسية
هذه الأشياء معنوية، أي أنها مضرة ولذلك وجب اجتنابها، وليست رجسية حسية
يجب تطهير الثياب منها كالعذرة مثلاً، فمن مسّ الأنصاب أو لَعِبَ الميسر أواستقسم
بالأزلام، وهو رطب اليد لا يجب عليه غسل يديه، ولو صلى قبل الغسل لا تجب
عليه الإعادة، وكذلك الخمر لأن حكمها في الآية حكم الميسر والأنصاب والأزلام،
فهذا المؤلف العامي يرد على نفسه من حيث لا يدري.
(٨) إنكاره قول المنار إن الكحول يوجد في غير الخمر من الأشربة
والأدوية وغيرهما، وزعمه أنه (لا وجود له في الطبيعة ألبتة، بل هو عنصر
يتولد بالتخمير) ... إلخ، ومن سَهُل عليه أن يقول في الدين بغير علم فأحرى به
أن يقول في الكيمياء بغير علم، وزعمه أن لا وجود له في الطبيعة يقتضي أنهم
يوجدونه من العدم بالتخمير، وليس في الدنيا كيماوي ولا طبيعي يقول بأن شيئًا ما
يوجد من العدم بأعمال كيماوية أو غير كيماوية، وقد اعترف المؤلف العامي بأن
الكحول يُستخرج من الثمرات والفاكهة والخضر والحبوب والخشب؛ ولكنه زعم أن
ذلك بالتخمير، والصواب أنه يُستخرج من الخشب وغيره بالاستقطار بآلات حديدية
مخصوصة، فهو يصدق المنار ويؤيده من حيث لا يفهم، ثم يرد عليه من حيث لا
يعلم.
(٩) قوله: (تذكرت في هذا المقام جوابًا لجناب الأستاذ، وذكر حديثًا
شريفًا في الإنكار على اليهود إذابة الشحوم المحرمة وبيعها، وهذا الحديث ليس
جوابًا لنا؛ وإنما يصح أن يكون جوابًا منا؛ لأننا نقول إن الأحكام الدينية يجب أن
تؤخذ عن الشارع من غير تأويل ولا حيلة، وهذا الحديث ينكر التأويل والحيلة
على اليهود فلماذا لا يحتج به على الفقهاء الذين يبيحون الحيل في الأمور الشرعية
حتى ما يتعلق بأركان الإسلام كالزكاة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن
الكلب، والإمام أبو حنيفة يجوِّزه، فهل رأى المؤلف الأمي أن يجعل العطر من
الخمر ويحتج علينا بالحديث، ولا يحتج به على المحتالين على هدم أركان الإسلام
بالحيل ومخالفة النصوص الصريحة؛ لأن الموت جعلهم مقدسين أو معصومين،
وذنبنا أننا أحياء، أنا أجل الإمام أبا حنيفة عن تجويز الحيلة في الدين، وإن كان
من المنتسبين إليه من ألَّف في الحيل حتى كاد يبطل بها كل شيء.
(١٠) قوله إن النصوص مصرحة (بأن كل مسكر يدخل تحت اسم الخمر
وأحكامه حكمًا لا تقليدًا ولا اجتهادًا ولا استنباطًا، وأن كل خمر نجسة العين)
ونحن نقول إذا صح قوله هذا فهو حجة على أئمته الحنفية لا علينا؛ فإن الخمر
عندهم ما عُرِّفت في النبذة الأولى من الرد، أي لا تكون إلا من عصير العنب
والأعطار الإفرنجية ليست من المسكرات، ونقول على قاعدته إنه يسيء الظن
بالإمام أبي حنيفة، ويزعم أنه مخالف لأحكام الدين من غير اجتهاد ولا استنباط
(حاشاه من جهل هذا المؤلف العامي) .
(النتيجة)
أن الخمر مختلف في نجاستها عند علماء المسلمين، وأن الخلاف في غير
عصير العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد أقوى، وأن النبيذ طاهر عند الإمام أبي
حنيفة وفيه الكحول قطعًا، وأن الكحول ليس خمرًا، وأن الأعطار الإفرنجية ليست
كحولاً؛ وإنما يوجد فيها الكحول كما يوجد في غيرها من المواد الطاهرة بالإجماع
وأنه لا وجه للقول بنجاستها حتى عند القائلين بنجاسة الخمر والله أعلم وأحكم.