للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مؤتمر التربية والتعليم في الهند

ليس للمصريين عبرة يعتبرون بها، ولا أسوة يتأسون بها كإخوانهم الهنود
الذين مرت عليهم السنون وهم يجهلون نعمة الحرية، التي هي للأمة كالعافية
للأفراد، وكالشمس في الطبيعة لا حياة طيبة إلا بها، ثم عرفتهم بها المصائب التي
نزلت بهم لترك الشكر عليها بالتربية والعمل النافع، لهذا نرى أن أفضل ما يُنشر
في المؤيد الأغر هو أخبار المسلمين في بلاد الهند، وقد كتب في الشهر الماضي
كلامًا عن ندوة العلماء التي أوجس منها حكامهم الإنجليز خيفة؛ لأنها مؤلفة من رجال
الدين، حتى أن الحاكم الإنجليزي للولاية التي هي فيها عرَّض بها، بل صرح في
خطبة له، فقام بعض فضلاء المسلمين يرد عليه بأن الجمعية لم تؤلف لغرض
سياسي - ومتى كان علماء الدين سياسيين - تخشى مغبته الحكومة؛ وإنما هي
لمحض ترقية العلوم الدينية والصلة بينها وبين العلوم الدنيوية لأجل ترقية المدنية،
فهل عرف المصريون كنه حرية الإنكليز كما عرفها إخوانهم الهنديون، أم يزالون
يسيئون الظن بهم انخداعًا لوسواس شياطين الوطنية الكاذبة، فلا يقدمون على عمل
نافع خوفًا من إيقاع الإنكليز بهم ووقوفهم في طريق عملهم؟ إن كانوا كذلك فهم من
خوف الذل في الذل.
ثم إنه - أي المؤيد - نشر خبر انعقاد المؤتمر الإسلامي المرة الخامسة عشرة
بالتفصيل، فجاء فيه أنه انعقد السنة في مدينة مدراس، وكان ينعقد في كلكتا
برياسة فاضل الهند وعاقلها القاضي أمير علي، واتفق أنه لم يوجد من أعضائه
المسلمين في مدراس من يصلح لرياسة الاجتماع، فكان الرئيس القاضي بودام
الإنكليزي فألقى خطبة افتتاحية تلقاها جميع المسلمين بالاستحسان والإعجاب، وهي
جديرة بذلك.
ابتدأ الخطيب كلامه بإظهار التأسف؛ لأنهم لم يجدوا مسلمًا يصلح لرياسة
الاجتماع يشعر بما يشعرون به، ويتألم مما يتألمون، ويخاطبهم بما يفهمون،
ويثقون بما يقول، ثم بإظهار الرجاء بأن يكون انعقاد المؤتمر في عاصمة ولاية
مدراس سببًا في إزالة الشقاق والخلاف من المسلمين وجمع كلمتهم واتحادهم على ما
ينفع أمتهم وبلادهم، وذكر أنه قبل الرياسة مضطرًّا بعد تردد، وأنه يؤمل أن ينفع
المسلمين بذلك.
وأثنى على المرحوم السيد أحمد خان مؤسس المؤتمر ومدرسة عليكدة الشهيرة
وذكر أنها تربي رجالاً عليهم مدار نجاح المسلمين في الحال والاستقبال، بما
تعرفهم من شأن الاعتماد على النفس والسعي بالنفس، وعدم الاتكال على الحكومة،
وعدم الخوف من معارضتها إذا هم جدوا واجتهدوا وتركوا الخمول والكسل،
وهبوا من نومهم الطويل، وذكَّرهم بأن هذه الصفات التي عُرف بها المسلمون هي
التي تقضي عليهم إذا لم يستبدلوا بها أضدادها من النشاط والنباهة وعلو الهمة؛ فإن
هذا العصر يتخلف فيه الظالع ويسبق الضليع ويبتلع فيه القوي الضعيف، وقال إنه
لا يشك أحد في أن هذا المؤتمر يؤدي للمسلمين أنفع خدمة؛ لأنه يجمع بين التربية
العصرية وعلوم المشرق وآدابه المشهورة وحاديه الاعتماد على النفس عند السعي
بالنفس.
ثم ذكر الخطيب وجه الأمل في نجاح المسلمين مع اعترافه بأنهم باتوا وراء
جميع الأمم، وأن الذين نقهوا منهم وأبلُّوا من المرض الاجتماعي وحاولوا مجاراة
الأمم الأخرى في مضمار الحياة يتهادون في مشيتهم تهاديًا، والأمم أمامهم توجف
وتوضع، وتعدو وتسرع، وهو أن لهم في المدنية قدمًا عالية، وأنهم كانوا أمة
راقية سامية، وأنهم كانوا أرباب السيف والقلم، ومنبع العلوم والحكم، اشتهروا
بالفلسفة والآداب والفنون الرياضية والطبيعية وكانت لهم المدارس الشهيرة في
القاهرة وبغداد وسمرقند وكانت بلاد الأندلس بهم أرقى بلاد العالم في العلم
والمدنية، قال: ومن العدل أن تذكروا هذا المجد القديم وتنشدوه، لا لتفتخروا
بالعظم الرميم وتقدسوه؛ ولكن لتقتدوا بتلك الهمم العالية، وتبعث فيكم تلك الروح
الزاكية، وإلا فالنسيان أولى.
ثم انتقل إلى السؤال عن طريق الوصول إلى هذه الغاية، وأجاب بأن الوسيلة
الفضلى والطريقة المثلى هي الجمعيات الإسلامية كذلك المؤتمر؛ لأن المسلمين
يجتمعون بواسطتها من البلاد الكثيرة في صعيد واحد يأتمرون بينهم ويتحاورون في
شؤون التربية ومستقبل الأمة، وكيفية الاتحاد واجتماع الكلمة، ومتى اجتمعوا
واتحدوا أدركوا ما أملوا وقصدوا.
ثم ذكر مدارس الحكومة في الهند، وقال إن زعماء الإصلاح من المسلمين
يرون أن نظام التربية فيها غير صالح لهم، ولا يؤدي إلى الغاية التي يرمون إليها
في مستقبلهم، وأنه يجب التوسل لجعل التربية والتعليم صالحين موصلين إلى
المقصد، قال الخطيب الرئيس: ويجب أن ينتشر هذا الرأي بينكم فإن مدارس
الحكومة لا تفي بكل حاجتكم.
ثم طفق يتكلم على التربية ما يؤثر منها في حسن العمل، وإصلاح الخلل،
وما لا يؤثر ثم قال ما خلاصته:
تبين لكم مما قلته إن خير المدارس لتعليم أولاد المسلمين ما جمع بين التربية
الدينية والعلوم العصرية، إذ تتهذب أخلاقهم ويقتبسون الفضائل في زمن تلقي
العلوم النافعة لهم في مستقبل حياتهم، هذا هو رأيي وأظن أنكم تجيزونه، وأزيد
على ذلك أن الطريقة التي تسيرون عليها في التربية الدينية غير مؤدية إلى الغاية؛
لأنها ليست سوى صور لبعض معلومات العقائد والأحكام تلقى في الأذهان فلا يكون
لها التأثير المطلوب في التهذيب، فإذا جعلتم التربية النفسية مدغمة في دروس
العلوم العصرية تصيبون الغرض مع الاقتصاد في الزمن؛ ولكنكم إذا بدأتم بالتعليم
الديني وحده وأنفقتم فيه الزمن الطويل، ثم عكفتم على العلوم العصرية يضيع منكم
زمن تسبقكم فيه أبناء الطوائف الأخرى إلى أخذ الشهادات العالية والانتظام في سلك
العاملين للحياة والمبرزين فيها، فيكون مثلكم معهم كمتسابقين إلى غاية يسير
أحدهما في قاع صفصف، والآخر حزون ذات تضاريس وعواثير، لهذا أرى أن
مدرسة عليكدة هي خير مدرسة للمسلمين؛ لأنها تسير على مثل النظام الذي ذكرته
ويا ليت لكم في كل ولاية مدرسة مثلها، وما كانت خيرًا لكم وافية بحاجتكم إلا
لأنها مدرسة أسسها المسلمون بأنفسهم لأنفسهم، ولا بد لكم من مدارس أهلية مثلها
تسير على النظام الذي ترونه نافعًا ناجحًا، ويجب أن يكون فيها مساكن للطلاب
ليكونوا دائمًا تحت هيمنة الأساتذة الفضلاء الذين يتولون أمر التربية، ويكونون
أئمة فيها يُقتدى بصفاتهم وأعمالهم.
ولا تحسبوا أن الحكومة أو طائفة من الطوائف تصدكم عن هذا السبيل، أو
تعيقكم عنه إذا أنتم سرتم بجد واجتهاد ناشئين عن ألم الشعور بالحاجة الذي لا
تجتمع مع الفتور والونى، الحق أقول لكم إنهم إذا رأوكم هكذا يعجبون بكم إن لم
يكونوا من أنصاركم، فالهندوس وسائر الطوائف يسرهم أن يروا إخوانهم في
الوطن ناجحين ليتكون من المجموع عمال ينهضون بالأمة الهندية ويسيرون بها في
جادة السعادة ويبلغون بها غاية الكمال.
لا تيأسوا ولا تستبعدوا الغاية ولا تعتذروا بالفقر ولا تطلبوا من الحكومة أن
تكون وصية عليكم وقائدة لكم، بل اعتمدوا على أنفسكم واعلموا أن الحكومة لا
تتأخر عن مساعدتكم إذا رأتكم تعملون لأنفسكم.
ثم ذكر أن الشرق كان مشرق أنوار المعارف، وأن دولة العلوم دالت بعد ذلك
إلى الغرب، فيجب أخذ العلوم منه لا سيما على قوم حكومتهم غربية، وذكر أن من
المسلمين قومًا يخافون على الدين الإسلامي من العلم، وأن هذا الخوف في غير
محله، قال: الإسلام باق لا يتأثر بشيء لأنه دين ليس فيه ما يعارض العلوم،
وهو يحث على ترقي العقل، فالترقي في العلوم العصرية يساعد على تقويته في
النفوس ووضعه في المكانة التي تليق به، وسيبقى فيكم من علمائه من يحافظ عليه
دائمًا، ثم ختم الكلام بفائدة المؤتمر في اتحاد المسلمين وارتقائهم والنصح لهم بأن
ينشئوا له فروعًا ثابتة في كل مدينة، وأن يكون أعضاؤه من الخواص الذين تتحقق
بهم الوحدة الإسلامية؛ ليكون المسلمون في الهند كجسد واحد إذا اشتكى له عضو
تألم جميعه، واقترح عليهم القيام باكتتاب عام دائم لأجل إنشاء المدارس الأهلية
مساعدة لمدرسة عليكدة، ثم أكد لهم القول السابق بأن الحكومة لا تساعدهم إلا إذا
بذلوا النفس والنفيس في خدمة أنفسهم، وإحكام رابطتهم، وحثهم على العمل،
وترك المراء والجدل، قال: (لتشهد لكم الحكومة والطوائف الأخرى، ويعترف
العالم كله بأن مسلمي الهند ليسوا أمة خاملة جاهلة) وفي هذه النصائح أكبر عبرة
لمسلمي مصر وأفصح معرف لهم بحرية الإنكليز التي لا يساويهم فيها أحد،
فليعملوا لحياتهم في ظل هذه الحرية الظليل مثل إخوانهم الهنديين إن كانوا يعقلون،
ولينشئوا لهم مؤتمرًا كمؤتمرهم لعلهم يرجعون.