للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


العربية الفصحى والعامية المصرية
مناظرة

من خير الجمعيات العلمية الأدبية جمعية في القاهرة مؤلفة من الشبان الذين
أتموا دراستهم في إنكلترا، وقد بلغنا أن هذه الجمعية دعت المستر ويلمور الداعي
إلى استبدال العامية المصرية بالعربية الفصحى [١] لحضور اجتماعها الأخير
للمناظرة والمناقشة الأدبية في موضوع كتابه الذي ألَّفه في هذا الشأن فأجاب الدعوة
وتلقاه أعضاء الجمعية بالترحيب والشكر، وبعد أن بيَّن ملخص موضوع الكتاب
دارت المناقشة، ومنها أن الأستاذ الفاضل الشيخ عبد العزيز جاويش سأله قائلاً ما
مثاله:
هل خطر في بال المستر أن يدعو قومه الإنكليز إلى توحيد لغتهم بأن يجعلوا
لهجة العاصمة (لندن) لغة المملكة كلها كما يدعو المصريين إلى ذلك؛ فإنه يعلم
كما علمنا بالاختبار أن بين لهجة أهل لندن ولهجات سائر الولايات الإنكليزية من
التفاوت مثل ما بين لهجة القاهرة ولهجات الوجه القبلي والوجه البحري أو أشد مثل
كذا وكذا (وضرب بعض الأمثلة) فقال المستر ويلمور: إن هذا غير ممكن فإنه
يضيع علينا تاريخ لغتنا؛ فإن كل لهجة من اللهجات في بلاد الإنكليز وكل اختلاف في
المفردات أو الأساليب فهو مأخوذ من شعب من الشعوب التي سادت على إنكلترا، قال
الشيخ: إن هذه الغائلة التي تحذرونها هي بعينها محذورة من إبطال لهجات أرجاء
القطر المصري ما عدا لهجة القاهرة المذبذبة؛ فإن قبائل العرب الفاتحين ضربوا في
كل رجًا من أرجاء القطر، وتبوأت طائفة من كل قبيلة جهة من الجهات غلبت لهجتها
عليها، وضرب لذلك بعض الأمثلة، وانتقل الشيخ بهذه المناسبة إلى الاستدلال على
غلط المستر في قوله: إن لغة القطر المصري لغة مستلقة دون العربية الصحيحة
بعيدة عنها كل البعد، وبيَّن أنها ليست إلا لغة عربية دخلها بعض التحريف والدخيل،
وإن أكثر ما يظن أنه منافٍ للعربية من لهجاتها هو من العربية وإنه إذا لم يوافق لهجة
قريش الفصحى فإنه ربما يوافق لغة بعض القبائل الأخرى وأورد أمثلة في ذلك وفي
التحريف فيها مقنع.
ثم ذكر أيضًا شيئًا كثيرًا من عيوب اللغة الإنكليزية كالخلاف بين ما ينطق وما
يكتب، وكالحروف الأثرية الزائدة في كثير من الكلمات حتى أن متعلم هذه اللغة
يضطر إلى حفظ لفظ كل كلمة وحفظ صورتها في الرسم؛ لأن الأول لا يدل على
الثاني في ألوف من الكلمات حتى يصح أنه يقال إنه لا قياس في هذه اللغة، وسأل
القاضي لماذا لا تصلحون هذه العيوب؟ فقال لأن ذلك إخلال بتاريخ لغتنا ومانع من
الانتفاع بالكتب الكثيرة التي أودعت علوم سلفنا ومجدهم، فقال الشيخ إن هذا المانع
نفسه هو الذي يمنعنا من استبدال خط لغتنا بخط آخر، كما يمنعنا من التدلي من
الصالح منها إلى الفاسد الذي لا يرجى إصلاحه؛ لأنه يتغير كل يوم، فاقتنع
القاضي وكان عادلاً في قبول هذه الأدلة والبراهين، ثم ختم الشيخ الكلام بقوله:
(إذا نبذنا اللغة الفصيحة ظهريًّا، وقبلنا أن يكون التعليم باللغة العامية
المصرية التي لا كتب فيها ولا قواعد لها، ننتقل إلى دور آخر في تعذر الإصلاح
واستحالة التعليم والتربية بهذه اللغة الفقيرة، وهو الدور الذي احتج فيه اللورد
ماكولي على وجوب تعليم الهنود باللغة الإنكليزية.
اللورد ماكولي أحد أعضاء الجمعية التي ذهبت إلى الهند في أوائل استقرار
السلطة الإنكليزية هناك لأجل تنظيم شؤون البلاد المالية والأدبية، وقد قال في
مناقشة من مناقشات الجمعية في أمر المعارف والتعليم: إننا جئنا لنعلم أمة لا تصلح
لغتها لأن تكون واسطة لتعليمهم ما عندنا من الفنون والعلوم لتعدد اللهجات غير
المضبوطة، وعدم سبق تأليف شيء من الكتب العلمية والفنية في لغتهم، فيجب
علينا إذن تعليمهم لغة أوربية، ثم أطنب في مدح اللغة الإنكليزية ما شاء وقال: فإن
قيل إن اللغة العربية قد أُلِّف فيها كثير من الكتب في كل علم وفن، لا سيما
الرياضيات والطبيعيات أيام ارتقاء العرب في الحضارة والمدنية وضخامة دولتهم،
وهذه اللغة لا تزال مألوفة لكثير من الشعوب الهندية فلماذا لا ننقل إليها ما ألف في
لغات أوربا من العلوم والفنون ونجعلها لغة التعليم، قلنا إن هذا صحيح؛ ولكن
الحكومة التي تتولى أمر التعليم في هذه البلاد ليست عربية، ولا من مصلحتها
التعليم بالعربية، ولا بد في هذا التعليم من تعريب كتب العلم، والمال المخصص
للتعليم لا يفي بنفقات التعريب وإيجاد الكتب العربية والمعلمين العارفين بها،
فالأقصد الأقرب أن يكون التعليم باللغة الإنكليزية اهـ.
وما يشعرنا إذا قبلنا ترك العربية الصحيحة ذات الكتب والفنون، وجعل
التعليم باللغة العامية أن يقول لنا المحتلون القابضون على زمام التعليم: إن المال
المخصص للتعليم لا يفي بالإنفاق على تأليف كتب تعليمية في هذه اللغة، وفي
إيجاد المعلمين، فأقرب الطرق وأقصدها أن يكون التعليم كله باللغة الإنكليزية،
وبذلك نفقد اللغة الفصيحة والعامية، فلا يبقى عندنا تاريخ للسلف ولا للخلف ولا
لغة ولا كتب، فسُرَّ المستر ويلمور بكلام الشيخ وإخوانه، وأكد لهم أنه ما أراد إلا
خيرًا، وأنه اقتنع بكلامهم ويرجو أن يحضر اجتماعهم مرة أخرى يزداد به
الموضوع إيضاحًا، فتلقوا كلامه بالقبول وودَّعوه بالشكر والاحترام.
هذا بعض الآراء والمسائل التي وصلت إلينا من المناظرة؛ ولكننا لم نقف
على ترتيب الكلام وكل ما قيل في المجلس، وفيما أثبتناه غناء وفائدة ودلالة على
فضل أعضاء الجعية وقوة حجتهم، وعلى إنصاف القاضي ويلمور وعدله
بالاعتراف بالحق؛ ولكن كل هذا لا يغني عن اللغة العربية شيئًا إذا لم ننهض
لنشرها وتعميمها ولو بين أهلها، ومن فوائد هذا الكتاب أنه أحدث حركة في الأفكار
لإحياء اللغة، ويتفكر بعض الفضلاء في تأليف جمعية لذلك، فعسى أن يكون العمل
قريبًا.