للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

قال: وهو معلوم مَنْ الناس الذين يَحسدون، وفيما يكون الحسد ومَن الناس الذين يُحسدون، إِذا وضعنا أَن الحسد هو حزن يعرض للمرءِ من أَجل نجح الغير وسعادته، وذلك إِذا وجدت له من الخيرات مثل الخيرات التي ذكرنا في باب النفاسة وجودها لأَناس يستأَهلونها وتليق بهم. وكان ذلك الحزن من الحاسد ليس لأَنه يهوى أَن يكون له ذلك الخير فقط، أَو يزول عن المحسود ويكون له، بل لأَن يزول فقط عن المحسود. وإِذا كان الحسد هو هذا، فهو ين أَن الحاسد إِنما يحسد الصنف من الناس الذين هم أَشباهه وأَمثاله أَو يظن بهم أَنهم أَشباهه وأَمثاله. وأَعني بالأَشباه المضارعين للمرء في الجنس وفي النسب وفي القنية وفي الحمد وفي المال. فهؤلاءِ هم المحسودون. وأَما الحساد فمنهم الناس الذين شافهوا الكمال في الخيرات التي يحسد عليها إِلا أَنهم لم يكملوا في ذلك ولا نالوا كل الخيرات ولا فاتهم جميعها بل يسير منها. ولذلك مالا يوجد فاعلو الأَفعال العظيمة، أَعني ذوي الأَقدار العظيمة والسعداء المنجحين في الأَشياءِ الإِنجاح التام، حسادا لأَنهم يرون أَنه لم يفتهم شيء وأَن كل شيءٍ لهم. وكذلك الصنف من الناس الذين يشرفون بشيءٍ من الأَشياءِ ويكرمون بسببه، ولا سيما بالحكمة وصلاح الحال. ومحبو الكرامة أَشد حسدا من الذين لا يحبون الكرامة. والذين هم حكماءُ محبون أَن يكرموا بالكرامات التي يكرم بها الحكماءُ، ولذلك يَحسدون الذين يكرمون بهذه الكرامات. وبالجملة: إِن كل من يحب أَن يحمد على شيءٍ من الأَشياءِ فإِنه يَحسد غيره في ذلك الشيءِ بعينه. فلذلك الذين يحبون أَن يكرموا على شيءٍ ما يحسدون على ذلك الشيءِ بعينه.

قال: والناس الصغار النفوس هم أَيضا حساد لأَن كل شيءٍ عظم عندهم يحسدون عليه، وإِن كان في نفسه صغيرا، حتى إِنهم قد يحسدون على كثير من الشرور الواقعة بالناس.

فهؤلاءِ هم أَصناف الحساد من الناس.

وأَما فيما يحسدون: فقد يحسدون في الرغبة في الحمد أَو في التشوف إِليه وفي الجلالة والنباهة بالمال والعبيد. وبالجملة في وجوه السعادات والنجح كائنا ما كانت وفي كل شيء حسد ولا سيما في الأُمور التي يشتهونها أَو يظنون أَنه يجب أَن تكون لهم. ومن الحساد الذين هم أَرجح من الإِنسان في المال قليلا أَو أَنقص منه قليلا.

قال: وهو معلوم أَيضا كما قلنا مَن يحسدون. فقد قلنا إِنهم يحسدون الذين هم قريب منهم في الزمان، والمكان، والحمد والمجد؛ ومن هنا قيل: إِن المضارعة بين الناس قد تُحْسِنُ الحسد. والحسد إِنما يكون في الصنف من الناس الذين لهم عند الإِنسان قدر ما قريب منه، وذلك إِذا كانوا في زمان واحد أَو قريب، أَو في مكان واحد أَو قريب. ولذلك لا يحسد الشيخ الصبي، ولا يحد الذين يأتون بعد في الزمان، ولا الذين غبروا. وهلكوا وبخاصة منذ سنين كثيرة. وكذلك لا يحسد البعداءُ في المكان من الخيار. فإِن خيار اليونانيين مثلا لا يحسدون الخيار الذين يكونون بأَصنام هرقل من جزيرة الأَندلس التي هي بلادنا. وكذلك لا يحسد الإِنسان الذين هم أَنقص منه بكثير، ولا الذين هم أَكمل منه بكثير، وإِنما يحسد من بينه وبينهم مشاركة، وذلك كالمتنازعين في شيءٍ واحد والمحبين لشيءٍ واحد. وبالجملة: كل إِنسانين يشتهيان شيئا واحدا، فكل واحد منهما يحب أَلا يكون لصاحبه وأَن يتوحد به وينفرد. ولذلك كان الحسد أَحرى أَن يكون لهؤلاءِ، وذلك كالفاخر والمفاخر، فإِن هؤلاءِ يشتهون شيئا واحدا، وكل واحد منهما يحب أَن ينفرد به. وإِنما يحسد الفاخر للمفاخر في الأَشياءِ التي إِذا اقتناها كان بها شبيها له. والحزن بهذه الأَشياء أَولا والأَسف عليها إِذا تمكن من النفس حدث عنه الحسد للذين توجد لهم هذه الخيرات، أَو هي مزمعة أَن توجد لهم، أَعني في المستقبل، أَو قد وجدت، أَعني فيما سلف. ولذلك قد تدخل الأَشياءُ التي قيلت في باب الأَسف والنفاسة في باب الحسد، لأَن الأَسف إِذا تمكن من النفس عاد حسدا.

قال: ومن كان من الغلمان أَكب رسنا فهو يحسد من هو أَصغر منه، إِذا نال الأَصغر خيرا لم ينله الأَكبر، أَو نال خيرا مثله. وكذلك يحسد من ينال الشيء بتدبير أَكثر لمن يناله بتدبير أَقل. وكذلك الذين أَدركوا بجهد وإِبطاء ونصب يحسدون الذين أَدركوا بسهولة وسرعة.

القول في الغبطة

<<  <   >  >>