للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وإنِّي وتهْيامي بعزَّةَ بعدما ... تخلَّيتُ ممَّا بيننا وتخلَّتِ

لكالمرتَجي ظلَّ الغمامةِ كلَّما ... تبوَّأ منها للمقيلِ اضمحلَّتِ

كأنّي وإيَّاها سحابةُ ممحلٍ ... رجاها فلمَّا جاوزتْها استهلَّتِ

[قصيدة جميل بثينة]

وذكروا أن كثير بن عبد الرحمن قال: قال لي جميل بن عبد الله بن معمر وهو أبو عمير: انطلق إلى بثينة وخذ لي وعدَّ منها، فقلت: فمتى عهدك بها، وهل بينك وبينها علامة؟ قال: آخر عهد لي بهم وهم بوادي الدَّوم يرحضون ثيابهم. قال: فأتيتهم فأجد أباها قاعداً بالفناء، فسلمت فرد، وحادثته ساعة حتَّى استنشدني، فأنشدته وقلت:

فقلتُ لها يا عزُّ أرسلَ صاحبي ... على نأي دارٍ والموكَّلُ يرسلُ

بأنْ تجعلي بيني وبينك موعداً ... وأنْ تأمريني بالذي فيه أفعلُ

وآخرُ عهدٍ منكِ يومَ لقيتني ... بأسفلَ وادي الدَّومِ والثوبُ يغسلُ

قال: فلما سمعت بثينة، وهي وراء أبيها في خدرها ذلك، ضربت كسير الخباء بكفها، وقالت: اخسأ، فقال لها أبوها: مهيم يا بثينة، مالك؟ قالت: كلب يأتينا إذا نوَّم الناس من وراء هذه الرابية. قال كثير: فانقلبت إلى جميل، فأخبرته أنها واعدته وراء الرابية إذا نوّم الناس. وإنما احتاج جميل إلى من يبلغ عنه، لما حكاه أبو عبيدة قال: شكا قوم بثينة جميلاً إلى معاوية، فأحماهم حمى وقال: إن ثقفتموه دونه، فقد أهدرت لكم دمه، فحذِّر جميل ولزم السلام، وجعل يبعث بالآية مع الأمة والراعي والراكي الذي يثق به، ولذلك يقول:

قالت بثينةُ لا تُبالي صرمَنا ... وبلى وجدِّكَ إنَّني لأُبالي

أوَ ما تراني من جريرةِ حبِّها ... أمشي الدِّلاصَ مقلِّصاً سربالي

[والقصيدة]

ما هاجَ شوقكَ من بِلى الأطلالِ ... بالبرقِ مرَّا صبا ومرَّا شمالِ

لعبتْ بجدَّتها الشَّمالُ وصابَها ... نوء السَّماكِ بمسبلٍ هطَّالِ

جرَّتْ بها هوجُ الرِّياحِ ذيولَها ... جرَّ النِّساءِ فواضل الأذيالِ

فحسرنَ عن دُهمٍ تقادمُ عهدُها ... وبقينَ في حقبٍ من الأحوالِ

وذكرتُ ربعاً حلَّ أهلونا بهِ ... إذ نحنُ في حلقٍ هناكَ حِلالِ

نقفُ الحديثَ إذا خشينا كاشحاً ... ونلطُّ حينَ نخافُ بالأمثالِ

حتَّى تفرَّقَ أهلُنا عن نيَّةٍ ... قذفٍ وآذنَ أهلُنا بزوالِ

بانوا فبانَ نواعمٌ مثلُ الدُّمى ... بيضُ الوجوهِ يمسنَ في الأغيالِ

حفدُ الولائدِ حولهنَّ وأسلمتْ ... بأكفِّهنَّ أزمَّةَ الأجمالِ

راحوا معَ البلقاءِ يشكو غيرهمْ ... عنفُ السِّياقِ مرفَّعَ الأذيالِ

جعلوا أقارحَ كلَّها بيمينهمْ ... وهضابَ برقةَ عسعسٍ بشمالِ

ولقد نظرتُ ففاضَ دمعي بعدَ منا ... مضتِ الظَّعائنُ واحتجبنَ بآلِ

عرضَ الجباجبِ من أُثالَ كما غدتْ ... رجحُ السَّفينِ دفعنَ بالأثقالِ

أفكلّ ذي شجوٍ علمتَ مكانهُ ... تسلو مودَّتهُ ولستُ بسالِ

من غيرِ إصقابٍ يكونُ في النَّوى ... إلاّ اللِّمامَ ولا كبيرَ وصالِ

قالتْ بثينةُ لا تبالي صرمَنا ... جهلتْ بثينةُ أنَّني لأبالي

والمجرمينَ مخافةً وتعبُّداً ... يحدونَ كلَّ نجيبةٍ شملالِ

غصباً كأنَّ عيونهنَّ من السّرى ... ومن الكلالِ مدافعُ الأوشالِ

إنِّي لأكتمُ حبَّها إذ بعضهمْ ... فيمنْ يحبُّ كناشدِ الأغفالِ

أبثينَ هل تدرينَ كمْ جشَّمتِني ... من عقرِ ناجيةٍ وحربِ موَالِ

وتعسُّف الموماةِ تعزفُ جنُّها ... بعدَ الهدوءِ بعرمسٍ مرقالِ

ولقد أشرت على ابنِ عمِّكِ لاقحاً ... من حربِنا جرباءَ ذاتَ غلالِ

حرباً يشمِّصُ بالضعيفِ مراسُها ... لقحتْ على عقرٍ وطولِ حيالِ

أوَ لا تراني من جريرةِ حبِّها ... أمشي الدِّلاصَ مقلِّصاً سربالي

صدأُ الحديدِ بمنكبيَّ كأنَّني ... جونٌ يغشِّيهِ العنيَّةَ طالِ

يا ليتَ لذَّةَ عيشنا رجعتْ لنا ... في مثلِ عصرٍ قد تجرَّمَ خالِ

فنبيعُ أياماً خلتْ فيما مضى ... قصرتْ بأيامٍ عقبنَ طوالِ

وإذا العدوُّ مكذَّبٌ أنباؤهُ ... وإذا النَّصيحُ مصدَّقُ الأقوالِ

<<  <   >  >>