للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

إذا ما رايةٌ رُفِعتْ لمجدٍ ... تلقَّاها عَرابةُ باليَمينِ

أبو نُواس أحسن رعايةً حيث يقول:

وإذا المطيّ بنا بلغنَ محمداً ... فظهورُهُنَّ على الرجالِ حرامُ

ومثل الأول قولُ ذي الرُّمَّة:

إذا ابنَ أبي موسى بلالاً بلغته ... فقامَ بفأسٍ بينَ وَصْلَيْكِ جازِرُ

فإنه لولا هذا الشعر لما ذُكر اسمه، ولا عُرف رسمه، ولا فاز له قدحٌ، ولا أشرق له صبحٌ، ولكنْ سارَ بهذا الشعر صيتُه، وعلا صوتُه، وحيَّ ذكرُه وإن تقادم موته، وقد كان الأجواد يتغايرون على بناتِ الأفكار كتغايرهم على البنات الأبكار.

كما حُكي أن أبا دُلَفٍ العِجلي كان يساير أخاه فبصرت بهما امرأتان، فقالت إحداهما للأخرى: هذا أبو دلف الذي يقول فيه عليّ بن جَبَلَة الطوسيّ:

إنَّما الدنيا أبو دُلَفٍ ... بينَ بادِيه ومحتضره

فإذا ولَّى أبو دُلَفٍ ... ولَّتِ الدنيا على أثَرِه

قالت: نعم فبكى أبو دلف، فقال أخوه: مم تبكي، قال: كوني لم أجازِ عليّاً على شعره، قال: أوَلَم تُعطه مائة ألف درهم، قال: بلى ولكني والله نادم إذ لم أجعلها دنانير. أخذتها أنا فقلت:

إنما الدنيا ابنُ نَصْرٍ ... ونَداه والعَطاءُ

فإذا ولَّى ابنُ نَصْرٍ ... فعلى الدنيا العَفاءُ

وقد كرَّرهما ابنُ جَبَلَة، فقال:

إنما الدنيا حُمَيْدٌ ... وأياديه الجِسَامُ

فإذا ولَّى حُمَيْدٌ ... فعلى الدنيا السَّلامُ

ووفد عليه أبو تمام ومدحه بقصيدته التي أولها:

على مِثْلها مِن أرْسُمٍ وملاعبِ ... أُذيلَتْ مصوناتُ الدموع السواكبِ

وهي من جيد شعره، يقول فيها:

إذا افتخرتْ يوماً هذيلٌ بقوسِها ... وزادت على ما وطّدَتْ من مَناقِبِ

فأنتمْ بذي قارٍ أمالتْ سيوفكُم ... عروشَ الذينَ استرهَنوا قَوْسَ حاجِبِ

محاسِنُ من مَجْدٍ متى يقرنوا بها ... محاسنَ أقوامٍ تَكُنْ كالمعايبِ

مناقبُ لَجّتْ في عُلُوٍّ كأنما ... تحاول ثأراً عندَ بعضِ الكواكبِ

فطرب لها وأحسن صلته، وقال: أنشدني قصيدتك الرائية التي ترثي بها محمد بن حميد فأنشده:

كذا فليَجِلَّ الخَطْبُ وليفدحِ الأمرُ ... وليسَ لعينٍ لم يَفِضْ ماؤها عُذْرُ

توفيت الآمال بعدُ محمدٍ ... وأصبحَ في شُغْلٍ عن السّفر السّفْرُ

وما كان إلاّ مالَ مَنْ قَلَّ مالُهُ ... وذخراً لمن أمسى وليس له ذُخْرُ

تردى ثيابَ الموتِ حُمْراً فما أتى ... لها الليلُ إلاّ وَهْيَ من سُنْدُسٍ خُضْرُ

كأنَّ بني نبهان يوم وفاته ... نجومُ سماءٍ خَرَّ من بينها البَدْرُ

هذا البيت مأخوذ من النابغة الذبياني:

ألَم تَرَ أنَّ اللهَ أعطاك سُرةً ... ترى كلّ مَلْك دونَها يَتَذَبْذَبُ

لأنَّك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ ... إذا طَلَعَتْ لم يبقَ منهنّ كوكبُ

وأخذه النابغة من بعض شعراء كِندة يمدح عمرو بن هند:

تكادُ تميدُ الأرضُ بالناس إنْ رأوا ... لعمرو بن هند غضبةً وهو عاتبُ

هو الشمسُ وافتْ يومَ سَعْدٍ فأفضلت ... على كلِّ شمسٍ والملوكُ كواكبُ

وقال نُصَيْبٌ:

هو البدرُ والناسُ الكواكبُ حولَهُ ... وهل تُشبهُ البدرَ المضيءَ الكواكبُ

ومثله لصفية الباهلية:

أخنى على واحدي ريب الزمان ولا ... يُبقي الزمانُ على شيءٍ ولا يَذَرُ

كنَّا كأنْجُمِ ليلٍ بيننا قمرٌ ... هو الدّجى فَهَوَى من بيننا القمرُ

نعود إلى خبر أبي دُلف، قال: فبكى، وقال: والله وددت أنّها فيّ، فقال أبو تمام: بل يُطيل الله عمر الأمير، فقال: فإنَّه لم يمتْ مَنْ قِيل فيه مثل هذا الشعر.

فانظر إلى هذه الأنفس الكريمة التي ترغب في الذكر الجميل فتختار الحِمامَ وتصبو إلى ابتناء المجد فتهجر في تحصيله الراحة والمنام.

ولو تصدَّى متصدٍّ لذكر هذا النمط فحسب، لملأ به بطون الدفاتر، واستنفد به أنفاس المحابر، وعطَّر الآفاق منه بما هو أضوعُ من أنفاس المجامر. وقد سمع النبيُّ، صلى الله عليه وسلّم، الشعر وأُنشد في مجلسه وأجاز عليه، وقصَّة كعب بن زهير وقصيدته:

بانتْ سُعادُ فقلبي اليومَ متبولُ

<<  <   >  >>