للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ترجمته له، كما ظهرت سمائها في كتابه المشهور "البخلاء".

وأما مكانة الجاحظ عند العلماء الأعلام فهي من السمو ورفعة القدر بحيث إنه ليس من اليسير حصر آراء كبار العلماء فيه، ولكن لا بأس من ضرب مثل أو أكثر للتعريف بمكانته. فقد أثر عن جماعة من الصائبين الكتاب أن ثابت بن قرة قال: ما أحسد هذه الأمة إلا على ثلاثة أنفس، فإنه:

عقم النساء فلا يلدن شبيهه ... إن النساء بمثله عقم

فقيل له: احص لنا هؤلاء الثلاثة! قال: أولهم عمر بن الخطاب في سياسته ويقظته وحذره، وحفظه ودينه وتقيته، وجزالته وبذالته وشهامته، وقيامه في صغير أمره وكبيره بنفسه، مع قريحة صافية، وعقل وافر، ولسان عضب وقلب شديد....

والثاني الحسن البصري، فلقد كان من دراري النجوم علمًا وتقوى وزهدًا وورعًا وعفةً ورقةً وتألهًا وتنزهًا وفقهًا ومعرفةً وفصاحة ونصاحة، مواعظه تصل إلى القلوب، وألفاظه تلتبس بالعقول ...

والثالث أبو عثمان الجاحظ خطيب المسلمين وشيخ المتكلمين، ومدره المتقدمين والمتأخرين، إن تكلم حكى سحبان في البلاغة، وإن ناظر ضارع النظام في الجدال، وإن جد خرج في مسك عامر بن قيس، وإن هزل زاد على مزيد حبيب القلوب ومزاج الأرواح، رشاه آنفًا، ولا تعرض له منقوص إلا قدم له التواضع استبقاء. الخلفاء تعرفه، والأمراء تصافيه وتنادمه، والعلماء تأخذ عنه، والخاصة تسلم له، والعامة تحبه، جمع بين اللسان والقلم، وبين الفطنة والعلم، وبين الرأي والأدب، وبين النثر والنظم وبين الذكاء والفهم.

ويطيل ثابت بن قرة في وصف الجاحظ إطالة أملتها الضرورة التي تدفع به إلى استيفاء قدر الرجل ولكننا اكتفينا منها بهذا القدر١.

ومن سمو قدر الجاحظ ما يستفاد من هذه القصة التي تتلخص في أن بعض الناس قالوا لأبي هفان الراوية: لم لا تهجو الجاحظ وقد ندد بك وأخذ بمخنقك، فقال: أمثلي يخدع عن عقله؟ والله لو وضع رسالة في أرنبة أنفي لما أمست إلا بالصين شهرة، ولو قلت فيه ألف بيت لما طن منها بيت في ألف سنة.

والمثال الآخر على سمو قدر الجاحظ عند صفوة الخاصة ما حكاه أبو القاسم


١ معجم الأدباء "١٦/ ٩٥".

<<  <   >  >>