للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وطرب وشرب، واستعاد الصوت دفعات، ثم قال لليزيدي: أرأيت أحسن مما نحن فيه؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أن تشكر من خوّلك فيزيدك منه، ويحفظه عليك. قال: بارك الله عليك، فلقد ذكّرت في موضع الذكرى. ثم أمر بثلاثين ألف درهم، فتصدق بها للوقت.

[دير الأنوار]

دير الأنوار: قرب عمورية، بالروم.

حدث أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري قال: خرجت من الأنبار في بعض أسفاري إلى عمّورية من بلاد الروم، فنزلت في بعض الطريق بدير يقال له دير الأنوار بقرية قريبة من عمورية فخرج إليَّ صاحب الدير المقدم على الرهبان به، وكان اسمه عبد المسيح فأدخلني الدير فوجدت فيه أربعين راهباً فأكرموني تلك الليلة بضيافة حسنة، ثم رحلت عنهم من الغدّ، وقد رأيت من كثرة اجتهادهم وعبادتهم ما لم أره قط من غيرهم، فقضيت غرضي من عمّورية ثم رجعت إلى الأنبار. فلما كان العام المقبل حججت، فبينما أنا أطوف حول البيت الشريف إذ رأيت عبد المسيح الراهب يطوف أيضاً ومعه خمسة نفر من أصحابه الرهبان، فلما أثبت معرفته تقدمت إليه، وقلت له: - أنت عبد المسيح الراهب؟ - قال: بل أنا عبد الله، الراغب في عفو الله.

فجعلت أقبل شيبته وأبكي، ثم أخذت بيده، وملت إلى جانب الحرم. وقلت له: بحق من هداك، ألا أخبرتني عن سبب إسلامك؟ فقال: لقد كان عجباً! وذلك أن جماعة من زهاد المسلمين وعبادهم مروا بالقرية التي فيها فأرسلوا شاباً منهم يشتري لهم طعاماً فرأى في السوق جارية نصرانية تبيع الخبز وهي من أحسن النساء، وأجملهن صورة، فلما نظر إليها افتتن بها وسقط لوجهه، مغشياً عليه، فلما أفاق رجع إلى أصحابه وأخبرهم بما أصابه وقال لهم: - أمضوا لشأنكم، فلست بذاهب معكم فعذلوه ووعظوه، فلم يلتفت إليهم، فانصرفوا وتركوه، فدخل القرية، وجلس على باب حانوت تلك المرأة، فسألته عن حاجته فأخبرها أنه عاشق لها، فأعرضت عنه، فمكث في موضعه ثلاثة أيام لم يطعم طعاماً، وهو شاخص إلى وجهها، فلما رأته لا ينصرف عنها، ذهبت إلى أهلها وجيرانها فأخبرتهم، فأطلقوا عليه الصبيان يرجمونه بالحجارة، فرجموه حتى رضخوا رأسه، وهشموا وجهه، وأدموا أضلاعه، وهو مع ذلك لا ينصرف. فعزم أهل القرية على قتله فجاءني رجل منهم، وأخبرني بحاله، فخرجت إليه، فرأيته طريحاً، فمسحت الدم عن وجهه، وحملته إلى الدير، وداويت جراحه، فأقام عندي أربعة عشر يوماً، فلما قدر على المشي خرج من الدير، وأتى باب حانوت المرأة، وجلس ينظر إليها، فلما أبصرته، قامت إليه وقالت له: - والله قد رحمتك فهل لك أن تدخل في ديني حتى أتزوجك؟ فقال: معاذ الله أن أنسلخ من دين التوحيد، وأدخل في دين الشرك، فقالت: - قم وادخل معي داري، واقض مني أربك، وانصرف راشداً. فقال: ما كنت بالذي أُذهب عبادة اثنتي عشرة سنة بشهوة لحظة واحدة! فقالت: - انصرف عني حينئذ. قال: لا يطاوعني قلبي. فأعرضت عنه بوجهها، ففطن له الصبيان، فأقبلوا عليه يرجمونه بالحجارة، فسقط على وجهه وهو يقول: - إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين، فخرجتُ من الدير وأتيته فطردت عنه الصبيان، ورفعت رأسه من الأرض فسمعته يقول: - اللهم اجمع بيني وبينها في الجنة، فحملته إلى الدير فمات قبل أن أصل به إليه، فخرجت به عن القرية، وحفرت له قبراً، ودفنته، فلما دخل الليل، وذهب نصفه صرخت تلك المرأة في فراشها صرخة عظيمة، فاجتمع إليها أهل القرية، وسألوها عن قصتها فقالت:

<<  <   >  >>