للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فَإِذَا كَانَ حُذَّاقُ بَنِي آدَمَ فِي كُلِّ فَنٍّ مِنْ الْعِلْمِ أَحَكَمُوهُ بِدُونِ هَذِهِ الْحُدُودِ الْمُتَكَلَّفَةِ: بَطَلَ دَعْوَى تَوَقُّفِ الْمَعْرِفَةِ عَلَيْهَا. وَأَمَّا عُلُومُ بَنِي آدَمَ الَّذِينَ لَا يُصَنِّفُونَ الْكُتُبَ: فَهِيَ مِمَّا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ وَلَهُمْ مِنْ الْبَصَائِرِ وَالْمُكَاشَفَاتِ وَالتَّحْقِيقِ وَالْمَعَارِفِ مَا لَيْسَ لِأَهْلِ هَذِهِ الْحُدُودِ الْمُتَكَلَّفَةِ. فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْرِفَةُ الْأَشْيَاءِ مُتَوَقِّفَةً عَلَيْهَا؟ .

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِابْنِ آدَمَ مِنْ الْحِسِّ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ مَا يُحِسُّ بِهِ الْأَشْيَاءَ وَيَعْرِفُهَا؛ فَيَعْرِفُ بِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَشَمِّهِ وَذَوْقِهِ وَلَمْسِهِ الظَّاهِرِ مَا يَعْرِفُ وَيَعْرِفُ أَيْضًا بِمَا يَشْهَدُهُ وَيُحِسُّهُ بِنَفْسِهِ وَقَلْبِهِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ. فَهَذِهِ هِيَ الطُّرُقُ الَّتِي تُعْرَفُ بِهَا الْأَشْيَاءُ فَأَمَّا الْكَلَامُ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُعْرَفَ بِمُجَرَّدِهِ مُفْرَدَاتُ الْأَشْيَاءِ إلَّا بِقِيَاسِ تَمْثِيلٍ أَوْ تَرْكِيبِ أَلْفَاظٍ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يُفِيدُ تَصَوُّرَ الْحَقِيقَةِ. فَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْحَقِيقَةَ: إنْ تَصَوَّرَهَا بِبَاطِنِهِ أَوْ ظَاهِرِهِ اسْتَغْنَى عَنْ الْحَدِّ الْقَوْلِيِّ وَإِنْ لَمْ يَتَصَوَّرْهَا بِذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يَتَصَوَّرَ حَقِيقَتَهَا بِالْحَدِّ الْقَوْلِيِّ. وَهَذَا أَمْرٌ مَحْسُوسٌ يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ. فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ الْمَحْسُوسَاتِ الْمَذُوقَةَ