للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن جملة ما وُكل إلى رقيق العراق وبلاد الشام والروم وغيرهم من ذوي البشرة البيضاء من أعمال, إدارة المبيعات، والقيام بالحرف التي تحتاج إلى خبرة ومهارة وفن، وهي من اختصاص أهل المدن والمستقرين, مثل: أعمال البناء والتجارة والأعمال الدقيقة.

وهذه البضاعة التي استوردتها قريش إلى مكة -وإن كانت تابعة، تُؤْمَرُ فتفعل، وتُكَلَّفُ فتستجيب- كانت بضاعة حية، لها قلب نابض، ودماغ يعمل، ولحم ودم، ولبعضها علم وفهم ومعرفة تفوق معرفة أصحابها المالكين لها. فبضاعة هذا شأنها لا بد أن تترك أثرًا في البيئة التي استوردت إليها. والإخباريون الذين هم مرجعنا الوحيد في رواية أيام الجاهلية قبيل الإسلام، وإن لم يحدثونا عن أمر هؤلاء القوم في نفوس ساداتهم والذين اختلطوا بهم، نستطيع بالاعتماد على نقد بعض النتف من رواياتهم أن نصل إلى هذه النتيجة التي هي شيء طبيعي وأمر ليس بغريب؛ نتيجة تقول: إن هذه البضاعة تركت في نفوس أهل مكة وفي نفوس العرب الآخرين ممن كان لهم رقيق، أثرًا ليس إلى إنكاره من سيبل، وإن بعض المصطلحات الفارسية والرومية والحبشية التي كانت معروفة عند العرب قبيل الإسلام، والتي أكدوا هم أنفسهم أنها لم تكن عربية، ولا سيما ما كان يتعلق منها بالصناعات والأعمال التي يأنف العربي من الاشتغال بها، إنما دخلت لغتهم وشاعت بينهم من طريق هؤلاء١.

وقد كان أغلب الرقيق الأبيض على النصرانية، وقد ذكر الإخباريون أسماء لبعضهم من نزلاء مكة تشير بوضوح إلى تنصرهم. وقد كان فيهم من يتقن العربية، ويعبر عن أفكاره بها تعبيرًا صحيحًا واضحًا, وفيهم من لا يفقه هذه اللغة؛ لأنه حديث عهد بها، فكان يتكلم بلسان أعجمي أو بعربية ركيكة، ومنهم من كان يتباحث في أمور الدين ويشرح لمن يجالسه ما جاء في ديانته وفي كتبه المقدسة. وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في الآيات: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ


١ صحيح مسلم: "٢/ ١٨٩", أسد الغابة "٥/ ٥٧٩", المشرق, السنة "٣٥" "١٩٣٧" "٨٢".

<<  <  ج: ص:  >  >>