للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النهار حارًّا شديد الحرارة، فقال له معاوية: ألق إليَّ نعلك، قال: لا، إني لم أكن لألبسها وقد لبستها. قال: فأردفني، قال: لست من أرداف الملوك, قال: إن الرمضاء قد أحرقت قدمي، قال: لا يبلغ أهل اليمن أن سوقة لبس نعل ملك, ولكن إن شئت قصرت عليك ناقتي فسرت في ظلها. فأتى معاوية النبي، فأنبأه فقال: "إن فيه لعُبَيَّة من عُبَيَّة الجاهلية"١.

و"العبية" الكبر والفخر, "وعبية الجاهلية: نخوتها, وفي الحديث: إن الله وضع عنكم عبية الجاهلية، وتعظمها بآبائها، يعني الكبر". وقد وصفت "قريش" ونعتت بتكبرها حتى قيل: "هذه عبية قريش"٢, ونجد في القرآن الكريم إشارات إلى عبية زعماء قريش وفخرهم على غيرهم بالآباء وبالأحساب وبأمور لا تستوجب فخر مفاحر؛ لأنها لا تتناول عمل إنسان ليحمد أو ليذم عليه. وقد ذمها الإسلام ونهى المسلمين عن عبية الجاهلية.

ونظرًا إلى ما للبداوة من فقر وقساوة وغلظ في المعاش، ومن ضيق أفق في المدارك وقصر نظر في شئون هذا العالم الخارجي وفي فهم الحياة -نظر العربي إلى الأعرابي نظرة استجهال وازدراء، ونظر إلى نفسه نظرة فيها علو واستعلاء. فورد أن الأعرابي إذا قيل له: يا عربي, فرح بذلك وهش له، والعربي إذا قيل له: يا أعرابي! غضب له٣؛ لما بين الحياتين من فروق وتضاد. فقد جبلت البادية أبناءها على أن يكونوا غرباء عن العالم الحضر وعن عقلية أهل القرى والمدن, متغطرسين مغرورين على فقرهم وفقر من يحيط بهم، فخورين بأنفسهم إلى حد الزهو والإعجاب والخروج عن الحد، فكانوا إذا تكلموا رفعوا أصواتهم، وظهرت الخشونة في كلماتهم، وإذا تعاملوا مع غيرهم ظهر الحذر عليهم، خشية الغدر بهم. ولهذا قال الحضر: "أعرابي جلف"، أي جاف٤, وفي الحديث: "من بدا جفا"، أي: غلظ طبعه لقلة مخالطة الناس٥. وقالوا: "أعرابي قح" و"أعرابي قُحاح"، وهو الذي لم يدخل الأمصار ولم يختلط


١ ابن سعد، طبقات "١/ ٣٤٩ وما بعدها"، "وفد حضرموت".
٢ تاج العروس "١/ ٥٧٤ وما بعدها"، "عبب".
٣ اللسان "١/ ٥٨٦"، "صادر"، "عرب".
٤ تاج العروس "٦/ ٦٠"، "جلف".
٥ تاج العروس "٦/ ٧٤"، "جفا".

<<  <  ج: ص:  >  >>