للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بالعواطف، تغلبت المصلحة عليها. فالمصلحة حاجة وواقع عملي، والعصبية شعور, والحاجة أقوى منها؛ ولهذا نجد المصلحة تدفع بطون القبيلة المتخاصمة على الاستعانة ببطون غربية عنها، أو بقبائل بعيدة عنها في النسب لمقارعتها أخواتها وللتغلب عليها، مدفوعة إلى ذلك بدافع المصلحة وغريزة المحافظة على الحياة. فتقاتلت بطون من طيء وتحاربت فيما بينها، وتقاتلت قبائل بكر ووائل مع وجود النسب والدم، وتقاتل بنو جعفر والضباب١. تقاتلت لظهور مصالح تغلبت على العصبية وعلى الشعور بالأخوة. ومتى ظهرت المصالح المادية عجزت عاطفة النسب والعصبية عن التغلب عليها.

وجرثومة العصبية، العصبية للدم، وأقرب دم إلى إنسان هو دم أسرته، وعلى رأسها الأبوان والإخوة والأخوات ثم الأبعد فالأبعد, حتى تصل إلى العصبية للقبيلة. ولهذا تكون شدة العصبية وقوتها تابعة لدرجة قرب الدم والنسب وبعدهما, فإذا ما حل حادث بإنسان، فعلى أقرب الناس دمًا إليه أن يهب لإسعافه والأخذ بالثأر ممن ألحق الأذى بقريبه؛ ولهذا صارت درجات العصبية متفاوتة بحسب تفاوت الدم ومنازل النسب.

وآخر مرحلة من مراحل العصبية، العصبية للقبيلة، والعصبية للحلف، أو العصبية للنسب الأكبر، وذلك في حالة تكتل القبائل وتخاصمها كتلًا. وتكون العصبية للقبيلة أقوى من العصبية للحلف أو النسب الأكبر مثل معد أو نزار أو حمير أو ما شاكل ذلك؛ وذلك لشعور أبناء القبيلة بأن الرابطة التي تربطهم هي رابطة الدم، والدم أبرز وأظهر في القبيلة من رابطة الحلف أو رابطة النسب الأكبر, ولا سيما رابطة الحلف، فإنها رابطة مصلحة في الغالب لا رابطة دم، والشعور بروابط المصالح لا يكون مثل الشعور بروابط الدم.

وتدفع العصبية للحلف، قبائل الحلف على التناصر والتآزر والتكتل والوفاء بالعهد، وإلا لم تكن للمتحالفين فائدة ما من الحلف، وعلى أفراد الحلف أن ينصر بعضهم بعضًا، وعلى قبائل الحلف أن يتآزروا في دفع الديات أيضًا, وبالمطالبة بديات من يُقتل من قبائل الحلف، إذا عجز أهل القتيل أو قبيلة القاتل عن الأخذ بحقه.


١ ابن الأثير "١/ ٣٨٨"، البلدان "٨/ ٤٥٠"، العمدة "٢٠٠ وما بعدها".

<<  <  ج: ص:  >  >>