للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من اضطرته الفاقة ووجد ألّا سبيل له إلى العيش إلا بالاشتغال بها، فانصرف إليها صاغرًا. ولهذا كان أكثر أصحاب الأعمال اليدوية من الرقيق والأعاجم واليهود. وإذا أخذنا بروايات أهل الأخبار نجد أن عدد أصحاب الحرف اليدوية كان قليلا جدًّا، فلم يكن في مكة مثلًا أحد من النجارين البارعين على ما يفهم من رواياتهم كروايتهم عن إعادة بناء الكعبة قبل النبوة بخمس سنين، أو كانوا قلة يعدون عدًّا. وكذلك يقال عن بقية الحرف، ويقال مثل ذلك عن يثرب. ولا أستبعد أن تكون في روايات أهل الأخبار مبالغات، ولكننا لا نستطيع نكران ازدراء العرب للحرف والصناعات.

وكانوا يعيرون من يتزوج من ابنة صائغ أو حداد أو نجار، ويعيرون نسله، ولا سيما إذا كان من بيت رفيع. وقد وجد أعداء "النعمان بن المنذر" آخر ملوك الحيرة وحساده في أُمه "سلمى" التي قيل إنها ابنة قين أو صائغ يهودي، سببًا قويًّا من أسباب استهزائهم به والاستصغار لشأنه. أما الحرفي، أي الذي يشتغل بالحرف اليدوية، فلم يكن من السهل عليه التزوج من بنات الأحرار، لما قد تتعرض له أسر البنات من تعيير وسبّة وإهانة بين الناس، بتزويجهم ابنة حرة لشخص وضيع مستصغر.

وأدنى المتعيشين بالحرف منزلة، الحلاقون والحجامون والحمالون، ثم أولئك الذي يعيشون على تلهية الناس، مثل سائس قرد، وهو الشخص الذي يربي القردة ويعلمها القيام ببعض الألعاب لتسلية المتفرجين وإضحاكهم في مقابل صدقة يقدمونها لقردته وله، ومثل أناس آخرين يربون حيوانات أخرى للغرض نفسه، أو يتخذون لهم مهنة إضحاك الناس عليهم لدر عطفهم والجود عليهم، ومثلهم المخنثون والمغنون المطربون.

وقد عرف المعدمون المتربون، وهم الذين لا يملكون شيئًا ب "بني غبراء"، للزقهم بغبراء الأرض، ويقال لهم "الصعاليك" أيضا١، وقد ذكرت قبل قليل


١ اللسان "١٤/ ٩٢"، "بني"، "هم اللصوص والصعاليك المهتدون في مجاهل الأرض، والعالمون بطرقها، وقيل بل هم الفقراء اللاصقون بالغبراء من سوء الحال. على غير غطاء ولا وطاء، وقال طرفة بن العبد:
رأيت بني غبراء لا ينكرونني ... ولا أهل هذاك الطراف الممدد
يقول: أنا معروف عند الأخيار والأشرار، وعند اللئام والكرام"، الثعالبي، ثمار "١/ ٢٧٠".

<<  <  ج: ص:  >  >>