للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن أسباب المدح سخاء الممدوح أو شهامته ونجدته وشجاعته وعفته وحلمه وصبره وتضحيته وما إلى ذلك من صفات وخلال حميدة. فكان إذا جاءه ضيف يعرفه أو لا يعرفه قدم إليه واجب الضيافة، وبالغ في إكرامه وإن كان فقيرًا لا يملك شيئًا. ويقدمه على نفسه وعلى أهله، لأن الضيافة حق وواجب، وعلى من يقصَد للضيافة أداء هذا الواجب.

وقد كان الملوك يهبون على المدح ويثيبون المادح على قدر ما جاء في مدحهم لهم من تفنن في المدح ومن إطراء زائد ومبالغة في المدح. ولما دخل "النابغة الذبياني" على "النعمان بن المنذر"، وحياه بتحية الملوك، ثم مضى مسترسلًا في مدحه، تهلل وجه النعمان سرورًا، وأمر أن يقدم له الدر، و "كسي أثواب الرضى. وكانت جُبّات أطواقها الذهب بقصب الزمرد. ثم قال النعمان: هكذا فليمدح الملوك"١. وفي كتب الأدب والأخبار أشعار قيل عن كل شعر منها "إنها أمدح بيت قالته العرب"٢. وفيها مبالغات وغلو في المدح، تجعل الممدوح شمسًا والملوك كواكب، إذا طلعت لم يبد منهن كوكب٣. وأمثال ذلك.

وهذا الشعر وشعر الفخر وأمثالهما، يجب أن يكونا موضوعين لدراسات نفسية، لأنهما يمثلان أعمق الأحاسيس النفسية للعرب، ويتحدثان عن المواطن الرقيقة عند العرب، التي تهتز أوتارها بسرعة عند سماعها هذا النوع من المدح. والنواحي العاطفية التي يمكن منها التأثير في العرب. ونحن لا نستطيع بالطبع، أن نأخذ هذا الفخر أو ذاك المدح على أنهما يمثلان الواقع ويمثلان الممدوح تمام التمثيل. أو أنهما تعبير عن نفس صادقة مخلصة في كل ما قالته أو نظمته. فنحن نعلم أن من الشعراء من يمدح للعطاء ويهجو إذا حُرم منه. وأن الممدوح إذا قطع عطاءه عن الشاعر، كفّ شاعر عن مدحه، وربما انقلب عليه فيغسل كل ما قاله في مدحه له، بشعر يشتمه فيه بأبشع أنواع الشتم وأمضه. فشعر مثل هذا، وإن كنا نرويه ونتحدث عنه ونحفظه، ولكنا نرويه ونستلذ بروايته، لأنه لذيذ من


١ نهاية الأرب "٣/ ١٧٧".
٢ نهاية الأرب "٣/ ١٨٢ وما بعدها".
٣ نهاية الأرب "٣/ ١٨٢".

<<  <  ج: ص:  >  >>