للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المثل في قلة ونذالة إذا لم يكن شر، وكان محلهم من القلوب محل من لا يغيظ الشعراء، ولا يحسدهم الأكفاء.. وإذا تقادم الميلاد ولم يكن الذرء وكان فيهم خير كثير وشر كثير، ومثالب ومناقب، لم يسلموا من أن يُهجوا ويضرب بهم المثل.. وقد يكون القوم حلولا مع بني أعمامهم، فإذا رأوا فضلهم عليهم حسدوهم، وإن تركوا شيئًا من إنصافهم اشتد ذلك عليهم، وتعاظموا بأكثر من قدره، فدعاهم ذلك إلى الخروج منهم إلى أعدائهم. فإذا صاروا إلى آخرين نهكوهم وحملوا عليهم، فوق الذي كانوا فيه من بني أعمامهم، حتى يدعوهم ذلك إلى النَّدم على مفارقتهم، فلا يستطيعون الرجوع، حميّة واتقاء، ومخافة أن يعودوا لهم إلى شيء مما كانوا عليه، وإلى المقام في حلفائهم الذين يرون من احتقارهم، ومن شدة الصولة عليهم"١.

وقد ذكر "الجاحظ"، أن مما تبتلى به القبائل فيصيبها الخمول: الشعر ونبوغ الأقارب أو المنافسين. فالشعر عند العرب يرفع من قدر الناس ويحط من درجاتهم. فقد يقال بيت واحد يربطه الشاعر في قوم ليس لهم جاه، فيرفع من شأنهم، وقد يقال بيت واحد في قوم لهم النباهة والعدد والفعال، فيغض من مكانتهم، ويكون سبّة لهم، ولأمر ما بكت العرب بالدموع الغزار من وقع الهجاء، كما بكى مخارق بن شهاب، وكما بكى علقمة بن عُلاثة، وكما بكى عبد الله بن جُدعان، والبلية الأخرى: أن يكون القبيل متقادم الميلاد، قليل الذرء قليل السيادة، وتهيأ أن يصير في ولد إخوتهم الشرف الكامل والعدد التام، فيستبين لمكانهم منهم من قلتهم وضعفهم لكل من رآهم وسمع بهم، أضعاف الذي هم عليه لو لم يكونا ابتلوا بشرف إخوتهم.

ومن شؤم الإخوة أن شرفهم ضعة إخوتهم، ومن يمن الأولاد أن شرفهم شرف من قبلهم من آبائهم ومن بعدهم من أولادهم٢. ولذلك كانت القبائل تفخر بنبوغ الشعراء بها، لأنهم لسانها الذابّ عنها، وسيفها المصلت على رقاب


١ الحيوان "١/ ٣٥٧ وما بعدها"، "هارون".
٢ الحيوان "١/ ٣٦٥".

<<  <  ج: ص:  >  >>