للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ما يحمله على بذل الجهد للاشتغال في صناعات أو حرفة أو زراعة، ولم تهيّئ له البذور والمواد اللازمة لإقامتها، لذلك جهلها فحاربها وازدراها وازدرى شأن من يشتغل بها. كما سأتحدث عن ذلك في المواضع المناسبة لهذا البحث.

والبادية أرضون واسعة شاسعة جرداء في أغلب أيام السنة، خلا مواسم نزول الغيث وهي قليلة، وقد تنحبس. إذا أمطرت السماء ظهر "الربيع"، فتفرح الأرض وتكسى بخضرة تتخللها أوراد وأزهار وشقائق، ويضحك عندئذ وجهها، بعد يبوس وعبوس، ضحكًا يُفهم الإنسان الحضري عندئذ سرّ تعلق الأعرابي بباديته. ففي البادية على ما فيها من شقاء وجفاف ويبوسة؛ سحر ينسي الإنسان صعوبة الحياة، وحلاوة تنسيه مرارة الأيام القاسية التي يعيشها البدوي في باديته. بعيدًا عن الحضر وعن المجتمع المتكثف في مستوطنة أو قرية أو مدينة، بل بعيدًا حتى عن أبناء عشيرته. فمن طبيعة الصحراء أن قلبها لا يتقبل المجتمعات الكبيرة، بل يفضل المجتمعات الصغيرة المتناثرة. فصارت البيوت فيها متباعدة منتشرة هنا وهناك انتشار النجوم في السماء. كل بيت مسئول عن حماية نفسه وعن وقاية أفراده من أذى الإنسان والحيوان، وعن حماية جاره وذوي رحمه وأبناء عشيرته. لأنه إن لم يفعل ذلك، لم يجد من يدافع عنه أيام الشدة والعناء، حتى صار الجار عنده بمنزلة الأهل والدار.

وحياة من هذا النوع هي حياة لا بد وأن تصير بسيطة جدًّا ساذجة إلى أقصى حدود السذاجة. أحاديثها اليومية تكرار وإعادة، وأحاسيسها نسخة لأحاسيس اليوم الماضي والأيام السابقة. وأفق التفكير فيها محدود ضيق. إذ لا مجال فيها للفكر أن يتفتق وأن يتفتح ويتوسع. ومنها طبعت الحياة العقلية والاجتماعية بطابع الفطرة والبساطة. وهي لا يمكن إلا أن تكون كذلك. وكيف تريد منها أن تكون غير ذلك، ومحيطها وظروفها هي على هذا النحو من الحدود والقيود!

وفي وسع الرجل بفضل ما أوتي من قوة ومن بسطة في الجسم، قطع المسافات لزيارة الأقارب والجيران، لقتل الوقت بالكلام معهم، أو للتحدث عن غزو سابق أو عن شئون سيد القبيلة أو عن إشراف العشيرة أو للخروج إلى صيد لاصطياد ما قد يجده من حيوان مسكين، حَتَّم عليه سوء طالعه أن يولد في هذا الأرض الفقيرة، فهو مثل الإنسان تائه بهذه الحياة في هذه البادية الواسعة المكشوفة الشحيحة، يشكو إلى خالقه من ظلم طبيعةٍ أنبتته في هذه الأرض الفقيرة، على

<<  <  ج: ص:  >  >>