للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أخباره، ويجمعون ما وعته ذاكرة رواة الأخبار من أمره، فوجد له مكانًا فسيحًا رحبًا في شروح الشعر الجاهلي وفي كتب الأخبار والأدب, وقد عرف مثل هذا الغزو الخالد بـ"أيام العرب" وبـ"أيام القبائل". وقد ذكر صاحب كتاب "الفهرست" أسماء جماعة من علماء الأخبار ألَّفوا فيها، وشغلوا أنفسهم بجمع أخبارها, دوَّنوها في كتب وفي جملتها مدونات عن أخبار أيام وقعت بين بطون قبيلة واحدة.

وقد تداول الجاهليون أخبار الغزو، وصيرت القبائل المنتصرة الأيام التي انتصرت فيها ملاحم، تعيد قصها في مجالسها وأنديتها، وقد زخرفت قصصها بأخبار الشجعان الذين برزوا فيها، وبالغت في أخبار شجاعتهم حتى طغت على أخبار الغزو نفسه، وصار البطل رمزًا للقبيلة، تستمد منه الشجاعة والإقدام في النصر وفي الهزائم والخسائر. فالنصر كما نعلم لا يدوم لأحد. وربَّ قبيلة وكر عليها طير السعد فسعدها الحظ بالنصر، ثم طار عنها؛ لأن الأيام الحلوة لا تدوم أبدًا. وقد تصاب القبيلة المنتصرة بنكسة، فتعوض عن ذكرى خسارتها، بذكرها انتصارها في الماضي، فيكون الماضي خير مسل لها عن مرارة الهزيمة، وأحسن مشجع وباعث على النصر في غزو المستقبل.

وقد أمدتنا أخبار الغزو بأسماء عدد من أبطال الجاهلية عرفوا بالشجاعة، لا تزال أخبار بعضهم تروى وتقص على الناس، وتقرأ قصتهم في المجالس مثل: قصة "عنترة" التي حصلت على النصيب الأوفر من الشهرة والذكر من بين القصص المروي عن أبطال الجاهلية، وهو قصص، مهما قيل عنه، وعما ورد فيه من مبالغات، فإنه لا يصل إلى درجة القصص المروي عن أبطال الفرس القدماء أو اليونان أو الرومان أو العبرانيين في المبالغة بشجاعتهم وبقوة أجسامهم الخارقة.

لقد فرضت الطبيعة على العربي أن يكون محاربًا غازيًا، فقد حرمته من خيرات هذه الدنيا ومن طيبات ما تنبت الأرض. حرمته من وجود حكومة تحميه وتدافع عنه, وحرمته حتى من وسائل الدفاع عن النفس. فجعلته لا يملك شيئًا يكنّ إليه في البوادي ليحمي به نفسه من الرياح السموم ومن أشعة الشمس القاسية ومن الحيوانات الوحشية، وجعلته يقابل المرض بمفرده، إذا ليس في البادية طبيب حاذق دارس. فلم يكن أمامه والحالة هذه إلا أن يعلم نفسه الصبر، وأن يصير محاربًا غازيًا لا يبالي بالنصر أو بالخسارة، بالحياة أو بالموت. إن خسر هذه

<<  <  ج: ص:  >  >>