للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والآلهة، هي التي تثيب وتعاقب. تثيب المتقي المتعبد لها المتقرب إليها بالنذور وبالبر بمعابدها، فتعطيه مالًا وتبارك له في نفسه وفي أهله، وتعطيه ذرية صالحة ذكورًا. وتنجيه من البلايا والآفات ومن الأوبئة والأمراض، وترجعه سالمًا معافًى من الحروب، تشفي جروحه إذا جرح، وتغدق عليه بالنعم من غنائم الحرب فهذا هو الثواب. ثواب في الدنيا وكفى.

أما العقوبة ففي الدنيا وحدها أيضًا، وتكون بإنزال البلاء بمن يستحقه من الخارجين على أوامر الآلهة، المتجاسرين على حرمة المعابد، المارقين على النظام، المخالفين لسلوك المجتمع، المجاوزين على حقوق غيرهم. ومن البلاء الأمراض من عمى وعور، وإصابة عضو من أعضاء الجسم بعطب، والأوبئة. ونجد في النصوص توسلات إلى الآلهة بأن تصيب من يغير النصوص المدونة الموضوعة شواخص على القبور، ومن يتطاول على حرمة المقابر، أو يدفن غريبًا فيها بغير إذن، بالعمى والعور؛ لتجاوزه على حرمة القبور. وكان في روع أهل مكة وما حولها أن من يعرض للسائبة، أو لحرمات الله، أصابته عقوبة في الدنيا١. وعقوبات الدنيا أشد تخويفًا للأعرابي، وأكثر وقعًا في نفسه من العقوبات المؤجلة في العالم الثاني، ثم إن معظم أهل الجاهلية لا يؤمنون باليوم الثاني، ولا بحشر وبعث ونشر.

ولولا الثواب والخوف من العقاب في هذه الدنيا، لما تقدم إنسان وهو فقير بائس، بأعز ما عنده إلى آلهته، على فقره وجوعه؛ ليقدمه قربة إليه، وهو في أشد الحاجة له، ولما بنى الناس المعابد، وتقدموا إليها بالهدايا والنذور، ولما ذكر رجل آلهته وتبرك باسمها، ووضع ملكه في حمايتها ورعايتها، ولعمت الفوضى المجتمع، وأكل بعضهم بعضًا، ونهبوا المال. والخوف من العقوبة في هذه الدينا، ساعد بالطبع كثيرًا في ردع الأشرار عن غيهم، وفي منعهم من الاعتداء على الحرمات، كما أن الإثابة في هذه الدنيا حملتهم على عمل الخير. وعلى التقرب إلى المعابد والعمل بأوامر رجال الدين؛ لتحقيق رضى الآلهة، وفي نيل رضاها كسب مادي وربح ملموس أكيد في هذه الحياة.

ولولا الأمل في الرضى والثواب، والخوف من الآلهة، لما جعل الناس أنفسهم عبيدًا إلى الآلهة. فسموا أنفسهم "عبد ود" و"أمت العزى" "أمة العزى"،


١ تفسير الطبري "٧/ ٥٩"، تفسير القرطبي "٦/ ٣٣٦".

<<  <  ج: ص:  >  >>