للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بالابتعاد عنها وبترك زيارتها وبنبذها إن هي صمت آذانها عنه، ولم تجب ما طلبه منها. وقد قصصنا حكاية امرئ القيس مع صنمه، إذ رمى السهام في وجهه وعنفه وشتمه؛ لأن جواب الاستقسام لم يكن على نحو ما كان يريد. ولم يكن ذلك من عمل أهل الجاهلية وحدهم، بل نجد وقوع مثل هذه الحوادث في الإسلام أيضًا.

وقد رأينا أن في الجاهليين -كما في كل قوم- أناس كانوا لا يقيمون وزنًا لحلال أو حرام، فكانوا يستحلون المظالم، ولا يجعلون للحرمات حرمة، ويعتدون في الأشهر الحرم. كانوا إذا حضروا الأسوق، أباحوا لأنفسهم الاعتداء فيها على أموال الناس فسموا: "المحللون". ومنهم قبائل من أسد وطيء وبني بكر بن عبد مناة بن كنانة، وقوم من بني عامر بن صعصعة١. فهؤلاء لا يعرفون الحلال ولا الحرام، والشهور والأيام عندهم سواء بسواء، يغزون فيها متى شاءوا، حتى في الأشهر الحرم؛ إذ لا حرمة عندهم لشهر.

وكان فيهم من ينكر ذلك وينصب نفسه لنصرة المظلوم والمنع من سفك الدماء وارتكاب المنكر، فيسمون الذادة المحرمون٢. وهم من بني عمرو بن تميم، وبني حنظلة بن زيد مناة، وقوم من هذيل، وقوم من بني شيبان، وقوم من بني كلب بن وبرة، فكانوا يلبسون السلاح لدفعهم عن الناس. وكان العرب جميعًا بين هؤلاء تضع أسلحتهم في الأشهر الحرم.

ولم تكن للجاهليين أحكام في الحلال والحرام بالنسبة إلى المأكول على ما يظهر، بل كان مرجع الحرمة والإباحة عندهم إلى عرف القبائل. فلما نزل الأمر في الإسلام بتحريم أكل الميتة، أي الحيوان الميت، عجبت قريش من ذلك، واحتجوا قائلين: كيف تعبدون شيئًا لا تأكلون مما قتل، وتأكلون أنتم مما قتلتم؟ وكانوا يقولون ما الذي يموت، وما الذي تذبحون إلا سواء. وذكر "أن ناسًا من المشركين دخلوا على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها؟ فقال الله قتلها. قالوا: فتزعم أن ما قتلت أنت


١ اليعقوبي "١/ ٢٤٠"، "أسواق العرب".
٢ اليعقوبي "١/ ٢٤٠"، "أسواق العرب".

<<  <  ج: ص:  >  >>