للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في الطباع، فأعطوا الشعراء كما يعطى الملوك، وقروا الأضياف، ووصلوا الأرحام، وقاموا بنوائب زوار البيت. فكان أحدهم يحيس الحيسة في الأنطاع فيأكل منها القائم والقاعد والداخل والراكب، وأطعموا بدل الحيس الفالوذج"١. فمرود الكسب الأول عند العرب في الجاهلية هو الغزو على رأي أهل الأخبار، وقد ترفعت قريش عنه، وصرفت نفسها إلى التجارة. ومن طبع التجار البخل ومسك اليد، أما قريش، فخالفتهم في البخل، ووصلت الشعراء وقرت الأضياف. ونسب "الجاحظ" سبب تركهم الغزو إلى كونهم أهل حمس ديانين، فقال: "وكانوا ديانين، ولذلك تركوا الغزو، لما فيه من الغصب والغشم واستحلال الأموال والفروج من العرب"٢. ويعتقد "الجاحظ"، بأن للدين أثرًا كبيرًا على سلوك الإنسان وعلى كره الحرب، إذ تراه يقول: "ثم جاء ما هو أعجب من هذا وأهم، وذلك أنا قد علمنا أن الروم قبل التدين بالنصرانية كانت تنتصف من ملوك فارس، وكانت الحروب بينهم سجالًا فلما صارت لا تدين بالقتل والقتال والقود والقصاص، اعتراهم مثل ما يعتري الجبناء حتى صاروا يتكلفون القتال تكلفًا، ولما خامرت طبائعهم تلك الديانة وسرت في لحومهم ودمائهم، فصارت تلك الديانة تعترض عليهم، خرجوا من حدود الغالبين إلى أن صاروا مغلوبين"٣. فالنصرانية قد أثرت على الروم حتى جعلتهم يكرهون الحروب، وصاروا مغلوبين بعدما كانوا غالبين، ثم جاء بدليل آخر على إثبات رأيه في أن الدين ينقص من شهوة الحرب، هو أن "التغزغز" من الترك، نقصت عندهم الشجاعة وهبت عنهم الشهامة بعد أن دانوا بالزندقة٤. فالدين إذن مخفف من شهوة الحرب مبرد من التعطش إلى القتال، لكنه على رأيه أيضًا، يحول المتدينين إلى أسود في المعارك، فقريش التي تركت الغزو بتة، كانوا مع طول ترك الغزو، إذا غزوا، غزوا كالأسود مع الرأي الأصيل والبصيرة النافذة، والخوارج


١ كتاب البلدان "ص٤٦٨"، "نشر الدكتور صالح أحمد العلي"، "مستلة من مجلة كلية الآداب سنة ١٩٧٠".
٢ كتاب البلدان "٤٦٨"، "وقريش من بين جميع العرب دانوا بالتحمس والتشديد في الدين، فتركوا الغزو كراهة للسبي واستحلال الأموال واستحسان الغصوب"، كتاب البلدان "٤٧٢".
٣ كتاب البلدان "٤٧١".
٤ كتاب البلدان "٤٧١".

<<  <  ج: ص:  >  >>