للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إليه على جمل أورق، تكلم بكلام له حلاوة لا أحفظه"١، وإذا راجعت نص خطبة "قس" في الموارد، تجد الرواة على اختلاف شديد فيما بينهم في ضبط نصها٢، وهذا حديث رسول الله التام، أي: المروي بالنص، وبالطرق الصحيحة تراه يرد أحيانًا بعبارات مختلفة مع اتحاد المعنى، مما يدل على أن رواته قد أجهدوا أنفسهم جهد طاقتهم في حفظه، لكنهم عجزوا عن حفظه حفظ الكتاب للمكتوب.

خذ صيغ التشهد في الصلاة مثلًا، وهي قصيرة العبارة، لا طول فيها، تجد الصحابة والفقهاء يختلفون مع ذلك في ضبطها، فترى نص تشهد "ابن مسعود" يختلف بعض الاختلاف عن نص تشهد "ابن عباس"، وعن نص تشهد "عمر"، وعن نص تشهد "أبي سعيد الخدري"، وعن تشهد "جابر"، مع قول "ابن مسعود": "علمني رسول الله التشهد وكفّي بكفّه، كما يعلمني السورة من القرآن"، وقول "أبي سعيد الخدري": "وكنّا لا نكت إلا القرآن والتشهد"، وقول "جابر": "كان رسول الله يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن"، وقول "جابر": "كان رسول الله يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن"٣، بل خذ القرآن، وهو كتاب الله المحفوظ المدوّن، الذي حفظه بعض الصحابة، وتلوه على الرسول، وحرصوا على المحافظة على نصه حرصهم على حياتهم، بل أشدّ منها، ودوّنوه ساعة الوحي، وأمام الرسول، ظهرت مع ذلك فيه قراءات، بسبب اختلاف مدارك الصحابة في فهمه وفي حفظه، وبسبب اللهجات وعيوب الخط، فإذا

كان هذا ما حدث في أيام الرسول وبعد وفاته بقليل، وقد وقع في أعز كلام بالنسبة للمسلمين، فهل يعقل بعد، التصديق بصحة النصوص المروية لخطب طويلة، زعم أنها قيلت في قصور كسرى، أو بحضرة ملوك الحيرة، أو الغساسنة، أو تبابعة اليمن، أو الكلام المروي عن قوم عاد وثمود، وقوم لوط، وغيرهم وغيرهم ممن هلكوا وبادوا قبل الإسلام بزمن طويل.

ثم كيف نصدق بخطب زعم أنها قيلت في الجاهلية، مثل خطبة "النعمان بن المنذر" أمام كسرى، أو خطب الوفد الذي أرسله هذا الملك إلى "كسرى" ليكلمه في أمر العرب٤، وهي خطب طويلة منمقة، على حين يذكر العلماء أن


١ الإصابة "٣/ ٢٦٥"، "رقم ٧٣٤٣".
٢ الجزء السادس من هذا الكتاب "ص٤٦٤ وما بعدها".
٣ أبو رية، أضواء على السنة المحمدية "٨٢ وما بعدها".
٤ بلوغ الأرب "١/ ١٤٧ وما بعدها".

<<  <  ج: ص:  >  >>