للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهم عليه أقدر، وله أقهر، وكل واحد في نفسه أنطق، ومكانه من البيان أرفع، وخطباؤهم للكلام أوجد، والكلام عليهم أسهل، وهو عليهم أيسر من أن يفتقروا إلى تحفظ، ويحتاجوا إلى تدارس، وليس هم كمن حفظ علم غيره، واحتذى على كلام من كان قبله، فلم يحفظوا إلا ما علق بقلوبهم، والتحم بصدورهم، واتصل بعقولهم، من غير تكلف ولا قصد، ولا تحفظ ولا طلب"١.

ويظهر أن من الخطباء من استعمل السجع في خطبه، ولا سيما في المفاخرات والمنافرات وأمور التحكيم٢، وهو في الغالب. ومنهم من كان يستعمل الكلام المرسل وذلك في الأمور الأخرى. ولغلبة السجع على الخطب، قال بعض علماء اللغة: "الخطبة عن العرب: الكلام المنثور المسجع ونحوه"٣.

وقسم "الجاحظ" الخطب على ضربين، فقال: "اعلم أن جميع خطب العرب من أهل المدر والوبر والبدو والحضر على ضربين، منها الطوال، ومنها القصار، ولكل ذلك مكان يليق به، وموضع يحسن فيه. ومن الطوال ما يكون مستويًا في الجودة، ومتشاكلًا في استواء الصنعة، ومنها ذات الفِقر الحسان والنتف الجياد. وليس فيها بعد ذلك شيء يستحق الحفظ، وإنما حفظه التخليد في بطون الصحف. ووجدنا عدد القصار أكثر، ورواة العلم إلى حفظها أسرع"٤.

وقد اقتضى النظام الاجتماعي والسياسي في الجاهلية أن يقيم العرب للخطابة وزنًا خاصًّا في المفاوضات التي تكون في داخل القبيلة للنظر في أمورها وفي شئونها الخاصة بها في أيام السلم وفي أوقات الغزو والغارات، في حالتي الهجوم والدفاع.

وأقاموا لها وزنًا خاصًّا بالمناسبة للمفاوضات التي جرت بين القبائل، أو بين القبائل والملوك. ثم في المفاخرات وفي المنافرات. فكل هذه الأمور وأشباهها استدعت ظهور أناس بلغاء اعتمدوا على حسن تصرفهم في تنظيم الكلم وفي تنسيق الجمل وفي التلاعب بالألفاظ للتأثير على القلوب والأخذ بمجامع الألباب. فربَّ كلمة كانت تقيم قبيلة وتقعدها لتلاعب الخطيب بقلبها بسحر بيانه وفي كيفية اختيار ألفاظه واستخدامه مواضع الإثارة التي يعرف أنها ستثير النار الدفينة في أفئدة سامعيه.


١ البيان والتبيين "٣/ ٨٢ وما بعدها".
٢ البيان والتبيين "١/ ٢٩٠".
٣ تاج العروس "١/ ٢٣٨"، "خطب".
٤ البيان والتبيين "٢/ ٧".

<<  <  ج: ص:  >  >>