للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ووفق قواعد منطقهم، فقد ثبت من أقوال علماء الشعر، ومن أخبار أهل الأخبار أن الجاهليين كانوا ينظمون بلهجاتهم، وكان نظمهم مفهومًا عند غيرهم، وقد تحتاج الأذن إلى تأمل وتفكير، لإدارك كلمات ومعاني ذلك الشعر. قال "ابن هشام" في شرح الشواهد: "كانت العرب ينشد بعضهم شعر بعض، وكل يتكلم على مقتضى سجيته التي فطر عليها، ومن هنا كثرت الروايات في بعض الأبيات"١. فالشاعر التميمي، ينظم بلهجته، والشاعر الأسدي ينظم بلهجة بني أسد قومه الذين ولد بينهم، والشاعر الثقفي ينظم بلهجة ثقيف، ولكنه إذا أنشده في غير قومه، فهم وعرف معناه، وإن احتيج إلى ترقيع أو تعديل في بعض الأحيان.

ودليل ما أقول: هو ما نجده في شعر الشواهد من اضطراب في القواعد، وخروج على أصول النحو والصرف، وورود ألفاظ في الشعر الجاهلي دعاها علماء اللغة غريبة أو وَحْشِيَّة، أو ألفاظ خاصة ذكروا أنها وردت في شعر الشاعر، لأنها من ألفاظ قبيلته، التي انفردت بها دون سائر القبائل، ولو كان نظم الشعر بغير لغة القبائل، لما شاهدنا فيه هذه الخصائص اللسانية التي وجدها علماء اللغة في شعر بعض الشعراء، ولجاء الشعر كله بلا خصائص قبلية وبلا ألفاظ غريبة، أما وقد صقل العلماء الشعر وحسنوا في بعض ألفاظه، ونقحوا منه ما نقحوه، فإن ذلك دليل في حد ذاته على أن الشعراء كانوا ينظمون الشعر بألسنتهم، وهي غير متباينة تباينًا كبيرًا، فلما ضبطه العلماء، ودونوه، هذبوا ما شذ منه وفق القواعد التي تثبتت في الإسلام، ففي الأخبار أن رواة الشعر، كانوا يجرون تغييرًا في نصوص الشعر، لتحسين الشعر وتصليحه، فقد رووا أن "الأصمعي" رفع لفظة "زنديه" من هذا البيت المنسوب إلى "امرئ القيس":

رب رام بني ثعلٍ ... مخرج زنديه من ستره

فجعله كفيه٢، ورووا إجراء إصلاحات أخرى، أدخلها علماء اللغة على شعر امرئ القيس وغيره، اقتضتها قواعد الإعراب أو البلاغة والبيان٣


١ المزهر "١/ ٢٦١"، "النوع السادس عشر".
٢ الموشح "٢٢".
٣ الموشح "٢٢، ٢٨، ٨٥، ٩٥". مجالس ثعلب "٤٨١".

<<  <  ج: ص:  >  >>