للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"الصعاليك"، الذين كانوا يتنقلون من مكان إلى مكان للحصول على رزقهم، وأمر "حسان" وقصده ملوك الغساسنة ووصوله إلى الحيرة، بل إننا لا نكاد ندرس حياة شاعر جاهلي، حتى نراه جوَّابًا، متنقلا من مكان إلى مكان، حتى صار التنقل من سيماء الشاعر عند الجاهليين، وكان هدفهم في الدرجة الأولى ملوك الحيرة ثم ملوك الغساسنة، أما ملوك اليمن، فقلما نجد في أخبار الشعراء وصولهم إليهم وإنشادهم شعرهم أمامهم، وذلك بسبب أن لسانهم كان لا يشاكل لسان الشعراء، وأما ما نسب إليهم من شعر، وما قيل من مدح بعض الشعراء لهم، فهو من القصص الذي لا يرجع إلى أصل، إلا ما ذكر من شعر في مدح بعض أذواء اليمن، فإن هؤلاء لم يكونوا ملوكًا، وإنما كانوا سادة مواضع وقبائل تقع شمال اليمن في الغالب، وقد كانت على صلة بالعرب الشماليين، وبلغة "آل" في ذلك الحين، ومع ذلك فإن صلتهم بهم لم تكن على نمط صلة الشعراء بسادات العرب الشماليين.

كان الشاعر يتنقل بين القبائل، فينزل على ساداتها ويحل في ضيافتهم، يقصد ملوك الحيرة خاصة، لما كان لهم من نفوذ في جزيرة العرب، ولينال عطاياهم، أو ليتوسط في حل ما بين الملوك وما بين قبيلة الشاعر، أو قبائل أخرى من أمور معقدة ومشكلات مستعصية، كما كان يزور الريف والقرى للميرة ولنيل هبات ساداتها من تمور أو دقيق أو أي شيء آخر يكون عند الحضر. فيمدح ويذم، وينشد شعره في أسواق القرى وفي نواديها ومجتمعاتها، فكان سوق "يثرب"، وهو المحل الذي يتجمع فيه الناس للبيع والشراء الموضع الذي يقصده الشاعر لإنشاد شعره به، ثم حل مسجد الرسول محله في الإسلام.

وقد ورد في الشعر الجاهلي ذكر بعض المواضع التي نزل بها الشاعر، أو التي ارتحل إليها ليزورها، وقد طمست أسماء بعض منها، وبقيت أسماء بعض آخر. وقد أمدتنا هذه الأسماء بمادة طيبة، أفادتنا في الحصول على معارف تأريخية وجغرافية عنها. ففي شعر "الأعشى"، وهو من الشعراء المتنقلة الذين أكثروا من الأسفار، وتنقلوا من مكان إلى مكان نجد أسماء أماكن عديدة وردت في شعره مثل "عانة"، و"بابل"، و"الحيرة"، ومواضع في اليمامة وفي اليمن، وتطرق في شعره هذا إلى أحوال من مر بهم، وذكر أسماءهم وأسماء قبائلهم فصار شعره لذلك موردًا هامًّا بالنسبة لنا، أفادنا في الوقوف على

<<  <  ج: ص:  >  >>