للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن غُضَّ من قَدْرِه، هو من اسْتَجْدَى بشعره، واتخذ شعره سببًا من أسباب التَّكَسُّب.

وما يقوله أهل الأخبار عن التكسب بالشعر يمثل وجهة نظرهم فحسب، وهو رأي لا أساسَ له، بسبب أن علمهم بالشعر لا يستند إلى دليل جاهلي مكتوب، وإنما هو من رواية ولدت في الإسلام لَاكَتْهَا الألسن، وتناولتها الكتب، حتى صارت في حكم الإجماع، يردده الْخَلَف عن السلف إلى هذا اليوم. والشعراء في نظرنا قبل النابغة وبعده بشر، فيهم المترفع وفيهم المستجدي الذليل، الذي لا يبالي أن تُمْتهن كرامته في سبيل الحصول على مال. وإذا كان في هذا اليوم شعراء يمدحون ويذمون لغاية الكسب والحصول على مَغْنَم، فلم نجعل شعراء ما قبل أيام النابغة الذُّبياني ملائكة، لا يمدحون إلا الشريف المستحق للمدح، ولا يذمون إلا الحقير الذي يستحق الذَّم، وما شعراء تلك الأيام، إلا كشعراء أيام النابغة، وما بعده، فيهم الشاعر المترفع، وفيهم الشاعر المترذل، وفيهم من لا يبالي بشعره، يمدح اليوم، ثم لا يبالي من ذمه بعد حين. وفي حقهم جميعًا جاء في القرآن: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} ١، ونحن نظلم النابغة إن جعلناه أول المتكسبين بالشعر، ونخرج عن المنطق إن ذهبنا هذا المذهب.

وذكر أن ممن رفعه الشعر من القدماء الحارث بن حِلِّزة اليَشْكُرِيُّ، وكان أبرص، فلما أنشد الملك عمرو بن هند قصيدته:

آذنتنا ببينها أسماء ... رب ثاوٍ يَمَلُّ منه الثواء

وبينه وبينه سبعة حجب، فما زال يرفعها حجابًا فحجابًا لحسن ما يسمع من شعره حتى لم يبقِ بينهما حجاب، ثم أدناه وقربة. وأمثاله ممن رفع من قدرهم الشعر كثير٢.

ورووا أن المحلق كان ممن رفعه الشعر بعد الخمول، وذلك أن الأعشى قدم مكة


١ [سورة الشعراء، الرقم: ٢٦، الآية: ٢٢٤ وما بعدها".
٢ العمدة "١/ ٤٣ وما بعدها".

<<  <  ج: ص:  >  >>