للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتسامع الناس به، وكانت للمحلق امرأة عاقلة، وقيل بل أم، وكان المحلق فقيرًا خامل الذكر، ذا بنات، فأشارت عليه، أن يكون أسبق الناس إليه في دعوته إلى الضيافة، ليمدحهم، ففعل، فلما أكل الأعشى وشرب، وأخذت منه الكأس، عرف منه أنه فقير الحال، وأنه ذو عيال، فلما ذهب الأعشى إلى عكاظ أنشد قصيدته:

أرقت وما هذا السهاد المؤرق ... وما بي من سقم وما بي معشق

ثم مدح المحلق، فما أتم القصيدة إلا والناس ينسلون إلى المحلق يهنئونه، والأشراف من كل قبيلة يتسابقون إليه جريًا يخطبون بناته، لمكان شعر الأعشى١.

هذا ما يرويه أهل الأخبار عن أثر الشعر في الناس. وروي أن الأعشى أنشد قصيدته المذكورة كسرى، فقال: "إن كان سهر من غير سقم ولا عشق فهو لص"٢.

"قال أبو عمرو بن العلاء: كان الشاعر في الجاهلية يَقْدُمُ على الخطيب، لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يقيد عليهم مآثرهم ويفخم شأنهم، ويهول على عدوهم ومن غزاهم، ويهيب من فرسانهم ويخوف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم. فلما كثر الشعر والشعراء، واتخذوا الشعر مكسبة ورحلوا إلى السوقة، وتسرعوا إلى أعراض الناس، صار الخطيب عندهم فوق الشاعر، ولقد وضع قول الشعر من قدر النابغة الذبياني، ولو كان في الدهر الأول ما زاده ذلك إلا رفعة البيان"٣.

ويذكر الرواة أن القبيلة كانت إذا نبغ فيها شاعر احتفلت به، وفرحت بنبوغه، وأتت القبائل فهنأتها بذلك، وصنعت الأطعمة، واجتمعت النساء يلعبن بالمزاهر، وتباشروا به لأنه حماية لهم، ولسانهم الذاب عنهم المدافع عن أعراضهم وأحسابهم وشرفهم بين الناس. وكانوا لا يُهَنِّئُون إلا بغلام يولد أو فرس تنتج


١ العمدة "١/ ٤٩".
٢ الشعر والشعراء "١/ ١٨٠".
٣ البيان والتبيين "١/ ٢٤١، العمدة "١/ ٨٢ وما بعدها".

<<  <  ج: ص:  >  >>