للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حتى إن كان ذلك الكتاب كتابه، لأن القراءة عن كتاب لا تدل على وجود علم عند القارئ، وشأنه إذن دون شأن الحافظ، الخازن للعمل في دماغه المملي للعلم إملاء، وكانوا إذا انتقصوا عالمًا قالوا: إنه يتلو عن صحيفة، أو يقرأ عن صحيفة أو كتاب، ومن هنا قيل للذي يقرأ في صحيفة ويخطئ في قراءتها المصحفون، قال ابن سلام: "فلو كان الشعر مثل ما وضع لابن إسحاق ومثل ما يروي الصحفيون ما كانت إليه حاجة، ولا كان فيه دليل على علم"١. وقد حمل ابن سلام على رواة الشعر الذي تداولوه من كتاب إلى كتاب، لم يأخذوه عن أهل البادية، ولم يعرضوه على العلماء، وإنما العلم علم العلماء بالشعر وأهل الرواية الصحيحة، أما أهل الصحف، الذين يروون من صحيفة، فلا يروى عنهم، إذ لا يروى عن صحفي"٢. وانتقصوا من علم القاسم بن محمد بن بشار الأنباري، ومن روى عنه مثل أحمد بن عبيد، الملقب أبا عصيدة، لأن هؤلاء "رواة أصحاب أسفار"، فهم لا يذكرون مع العلماء حفظة العلم٣، والرواة أصحاب السفر، والصحفيون، إنما كانوا يعتمدون على الصحف، ويحلون منها، ولذلك فقد يقع اللحن أو الخطأ منهم سهوًا أما الرواة الحفاظ، فلا يقع ذلك منهم إلا في النادر، ثم إنهم ينشدون الشعر من مخارجه وحروفه، وهذا هو تفسير قول ابن سلام وأضرابه: "ليس لأحد أن يقبل من صحيفة، ولا يروي من صحفي"٤. وفي جملة ما آخذ به ابن سلام الصحفيين، أي الذين يكتبون ويدونون ما يقال لهم، دون نقد، أنهم لم يكونوا أصحاب رأي وعلم، بل كانوا يقبلون كل ما يقال لهم، كما هو واضح من قوله في ابن اسحاق: "فلو كان الشعر مثل ما وضع لابن إسحاق، ومثل ما رواه الصحفيون، ما كانت إليه حاجة، ولا فيه دليل على علم"٥.

ولهؤلاء الرواة فضل كبير -ولا شك- على الشعر الجاهلي وعلينا أيضا، فبحفظهم لذلك التراث القيم وبإذاعته وبنشره بين أبناء زمانهم، أمكن وصوله إلى من جاء بعدهم من عشاق الشعر والمتيمين به، حتى وصل إلى أيدي المدونين فدونوه.


١ الْمُزْهِرُ "١/ ١٧٤".
٢ ابن سلام، طبقات "٥ وما بعدها".
٣ الْمُزْهِرُ "٢/ ٤١٣".
٤ طبقات "٥ وما بعدها".
٥ طبقات "١١".

<<  <  ج: ص:  >  >>