للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إحراق الكتب، لا يشير لا تصريحا ولا تلميحًا إلى علاقته بالشعر، ولعله خير موضع، وضعه أبو عبيدة لغرض ما، كأنه كان يريد من وضعه المبالغة في علمه وفي زهده، أو أن حريقًا غير متعمد أصاب بعض كتبه، فضخمه ووسعه، وجعله إحراقًا متعمدًا، إذا لا يعقل أن يقوم هو بإحراق كتبه كلها، ثم إن قوله: "وكان كتبه التي كتب عن العرب الفصحاء، قد ملأت له بيتًا على قريب من السقف، ثم إنه تقرأ فأحرقها كلها" لا يخلو من مبالغة فليس من السهل على رجل كتابة هذا القدر من الكتب بالنسبة لذلك الوقت، حيث كان الورق غاليًا، بحيث تملأ بيتًا إلى قريب من السقف، ثم قيامه بإحراقها كلها بمثل هذه البساطة والسذاجة، فهي في نظري قصة مصطنعة، لا حقيقة فيها. ومما يؤيد سذاجة هذه القصة، هو أن صاحبها عاد فقال إنه رجع بعد إلى علمه الأول، فلم يكن أمامه عنده إلا ما حفظه بقلبه١، مما يثبت أنه أراد من وضعها المبالغة في علمه، بزعمه أنه كان قد حفظ ما شاء الله من العلم، ومنه الشعر الجاهلي الذي كان يمجده، ويرى أنه وحده هو الشعر، ولهذا لم يستشهد أو يحتج ببيت إسلامي، مهما بلغ الشعر الإسلامي من الجودة والحسن لأنه شعر محدث، والمحدث لا يقاس بالشعر الجاهلي الأصيل، مهما بلغ من الإتقان.

وقد زعم أنه قال: "ما زدت في شعر العرب إلا بيتًا واحدًا، يعني ما يروى للأعشى من قوله:

وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا٢

ولا ندري بالطبع إذا كان هذا الكلام المنسوب إلى أبي عمرو هو من كلامه حقًّا، أو كان من الكلام المصنوع المنحول عليه. وإذا كان صحيحًا، فإن فيه تلميحًا إلى أن هناك من قد اتهمه بالوضع، جريًا على العادة التي كانت إذ ذاك من اتهام العلماء بعضهم بعضًا بالوضع، فروي هذا الخبر في تبرير ذمته من الوضع، وإنه لم يضع في حياته إلا البيت المذكور.

وعوانة بن الحكم بن عياض الكلبي، ويُكَنَّى أبا الحكم، من هذا


١ البَيَانُ والتَّبْيينُ "١/ ٣٢١".
٢ الْمُزْهِرُ "٢/ ٤١٥"، الأغاني "٣/ ١٤٣".

<<  <  ج: ص:  >  >>