للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الْيَوْم لغدٍ، حل بِهِ أَكثر من هَذَا، فَقَالَ: هَذَا القَوْل أشدُّ عَليّ من فَقْدِ الْخلَافَة.

قَالَ القَاضِي: وَنحن نلجأ إِلَى اللَّه جلّ جَلَاله راغبين إِلَيْهِ، خاضعين لَهُ، واثقين بِهِ، راجين لإحسانه، مستجيرين بعفوه وَكَرمه، فِي أَن يحفظ علينا الْخلَافَة الهاشمية والدولة الْعَبَّاسية، ونَعُوذ بِهِ أَن نَضْحَي بعد الاسْتِظْلال بِظِلِّها، والتَّقَلُّبِ فِي عَدْلِها، والْبِشْرِ بِخِدْمَة أَهلهَا، ونسأله سُؤال من وَجَّه رَغْبته إِلَيْهِ، وَاعْتمد فِي دينه ودنياه عَلَيْه، أَن يتمم نعْمَته، ويُهنِّي مَوْهِبَتَه، ويُوفِّر تشريفَه وتكْرِمتَه، لعَبْدِهِ القادرِ بِاللَّه أَمِير الْمُؤْمِنِين، ويعز نَصره، وَيرْفَع فِي الْمَلأ الْأَعْلَى ذكره، ويُنّفِّذ فِي شَرق الْبِلَاد وغربها أمْرَه، ويَبْسُطَ يَده فِي جُمَيْع الرعايا وَلسَانه، ويُديل من كُلّ مخالفٍ عَلَيْه سُلْطَانه، حَتَّى يَفِيض العدلُ فِينَا، ويُديل ظالمنا، ويُنيل مظلومنا، ويَظْهَرَ لَهُ مَا ستره المُنَافِقُونَ، ويمكِّنه من نقضِ مَا أبرمه المارقون، حَنى يُدنِي كُلّ أَمِين، ويُقْصِي كُلّ ظَنِين، ويَسْتَبْطِن أُولي النِّعَم من أهل الدِّين، ويصطنع ذَوي الْفِقْه والإمامة، ويَطرِح أهلَ الرِّيَبِ والخيانة، إنَّه لطيفٌ خَبِير.

الْمُهْتَدِي يتشبه بعمر بْن عَبْد الْعَزِيز

حَدَّثَنِي بعض الشُّيُوخ مِمَّنْ شَاهد جمَاعَة من الْعلمَاء، وخالط كثيرا من الرؤساء أَن هَاشِم بْن الْقَاسِم الْهَاشِمِي، حدّثه وَقَدْ حدَّث هَاشِم هَذَا حَدِيثا كثيرا، وكتبنا عَنْهُ الْآن هَذِهِ الْحِكَايَة، لَمْ أسمعْها مِنْهُ وحَدَّثَنِي بهَا هَذَا الشَّيْخ الَّذِي قدمت ذكره، قَالَ أَبُو الْعَبَّاس هَاشِم بْن الْقَاسِم: كنتُ بِحَضْرَة الْمُهْتدي عَشِيَّةً من العَشَايَا، فَلَمَّا كَادَت الشمسُ تَغْرُب وَثَبْتُ لأنصرف، وَذَلِكَ فِي شهر رَمَضَان، فَقَالَ: اجْلِسْ فجلستُ، ثُمّ إِن الشمسَ غَابَتْ، وَأذن المؤذنُ لصَلَاة الْمغرب وَأقَام، فتقدَّم الْمُهْتدي فصلى بِنَا ثُمّ ركع وركعْنَا، ودعا بِالطَّعَامِ فأُحْضِر طبقُ خلافٍ وَعَلِيهِ رغفٌ من الْخبز النقي، وَفِيه آنيةٌ فِي بَعْضهَا مِلْح وَفِي بَعْضهَا خَلٌّ، وَفِي بَعْضهَا زيتٌ، فدعاني إِلَى الْأكل فابتدأت آكل مِقْدَارًا أَنَّهُ سيُؤْتَى بطعامٍ لَهُ نيقةٌ وَفِيه سَعة، فَنظر إليّ وقَالَ لي: ألم تَكُ صَائِما؟ قُلْتُ: بلَى، قَالَ: أفَلَسْتَ عَازِمًا عَلَى صَوْم غدٍ، فَقلت: كَيفَ لَا وَهُوَ شهر رَمَضَان، فَقَالَ: فكُلْ وَاسْتَوْفِ غذاءك فَلَيْسَ هَاهُنَا من الطَّعَام غَيْر مَا ترى، فعجبتُ من قَوْله، ثُمّ قُلْتُ: واللَّه لأخاطبنه فِي هَذَا الْمَعْنى، فَقلت: وَلَم يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين؟ وَقَدْ أوسع اللَّه نعْمَته وَبسط رزقه وَكثير الخَيْر من فَضله، فَقَالَ: إِن الْأَمر لعلى مَا وَصَفْتَ وَالْحَمْد للَّه، ولكنني فكرتُ فِي أَنَّهُ كَانَ فِي بني أُمَيَّة عُمَر بن عبد الْعَزِيز، وَكَانَ من التَّقَلُّلِ والتَّقَشُّفِ عَلَى مَا بلغك، فَغِرْتُ عَلَى بني هَاشِم أَن لَا يَكُون فِي خلفائهم مثله، فَأخذت نَفسِي بِمَا رَأَيْت.

قَالَ القَاضِي: وَلَم تزل المنافسة فِي أَعمال الْبر وأبواب الْخَيْر، فِي أثر الْمُتَّقِينَ وسبيل الصَّالِحين، وَقَدْ وفْق اللَّه الْمُهْتَدِي رضوَان اللَّه عَلَيْه من هَذَا لما يُرْجَى لَهُ المثوبة مِنْهُ والزلفى لَدَيْهِ، وفقنا اللَّه وَإِيَّاكُم لطاعته وَحسن عِبَادَته.

<<  <   >  >>