للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قَدْ قَرَأَ عليَّ شَيْئا مِمَّا صنفه ابنُ السِّكِّيت فِي هَذَا الْمَعْنى وَابْن قُتَيْبَة، وَمَا أَلفه أَبُو الْفرج قُدَامَةُ الْكَاتِب فِي نقد الشّعْر وَالْكتاب الْمَنْسُوب إِلَى أَبِي عُثْمَان الأُشْنَانْدَانِيّ عَلَّق عني صَدرا صَالحا من الزِّيَادَة فِي ذَلِكَ، وَشرح مستغلقه وإيضاح شكله، وَتَفْسِير مجمله، وتلخيص مُهْمله، وتَخْطئَةِ من أَخطَأ فِي تَأْوِيله، ثُمّ غَابَ عني فَانْقَطَعت عَنِ التفرغ لتتبع مَا بَقِيّ مِنْهُ، وَقَدْ وَقع إِلَيْنَا فِي هَذَا الْبَاب فقرٌ حَسَنَة عَنْ شَيْخَيْ هَذِهِ الصناعةِ فِي زمانهما وهما أَبُو الْعَبَّاس النحويان أَحْمَد بْن يَحْيَى، ومُحَمَّد بْن يَزِيد، وَكَانَ مُحَمَّد بْن يَحْيَى الصولي يتَكَلَّم كثيرا فِي هَذَا النَّوْع، ويَدَّعِي فِيهِ دَعَاوَى يَدْفعُهُ عَنِ التقدُّم فِيهَا، ظهورُ تَأَخره عَنْهَا، وتَفَاحُشُ خطئِهِ فِيمَا يُورِدهُ مِنْهَا، وَقَد أخرج قومٌ من هَذَا الْقَبِيل إعجابهم بِأَنْفسِهِم، وَفَسَاد تَخَيُّلهم، إِلَى تخطئَةِ الفحول من الشُّعَرَاء الجاهليين، ومَنْ بعدهمْ من المخضرمين، وَمن بَينهم من الإسلاميّين الَّذِين قَوْلهم حُجَّة عَلَى مَنْ بَعدهم، وَمن تَأَخّر عَنْهُمْ، فأحسنُ حَالاتِه فِي هَذَا الْبَاب أَن يَكُون تبعا لَهُم، فَمنْ ذَلِكَ أَن لُغْدَةَ الْأَصْبَهَانِيّ أقدم عَلَى تخطئة الطَّبَقَة الأولى، كامرىء الْقَيْس وَزُهَيْر والنابغة والأعشى وَمن يجْرِي مجراهم، فخطَّأَهم فِيمَا أَصَابُوا فِيهِ فتفاقم خَطَؤُه، وتعاظم خَطَله، وَقَدْ كُنْت أمللْتُ عَلَى بعض مَنْ حَضَرني مَا يتبيَّن فِيهِ قُصُور مَعْرفَته، وضَعْف بصيرته، ثُمّ رَأَيْت أَبَا حنيفَة أَحْمَد بْن دَاوُد الدِّينَوَرِيّ قَدْ صَمِد لكتاب لغدة هَذَا فنقضه، وَأورد أَشْيَاء صَحِيحَة تنبيء على إغفاله وَضعف تَأمله، وَمَعَ هَذَا فلسنا ننكر أَن يخطىء الرئيس فِي عمله، وَالسَّابِق فِي فهمه، فَلَا يضع ذَلِكَ من قدره، وَلا يحطُّه عَنْ مرتبته، إِذْ فَوق كُلّ ذِي علم عليم حَتَّى يَنْتَهِي الْعلم إِلَى رَبنَا عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيز الْحَكِيم.

وَقَدْ كَانَ للمتوكل خَادِم يُعرف " بعرق الْمَوْت " قَدْ شدا أَشْيَاء من الْأَدَب، وَحفظ صَدرا من الشّعْر إِلا أَنَّهُ حَل بِقَلْبِه من النَّقْص نَحْو مَا حل بجسمه، فَظن أَنَّهُ قَد اضطلع بأفانين الْأَدَب، واطلع عَلَى بلاغات الْعَرَب، وَأخذ فِي نَحْو مَا كَانَ لُغْدة أَخَذَ فِيهِ، وَنسب امْرأ الْقَيْس إِلَى ذَهَابه فِي بعض شعره عَنْ صِحَة تَرْتِيب نظمه، ووَصْل الشَّكل بشكْله، وإلْحَاقِ الْمِثْل بِمِثْلِهِ، وحَمْلِ الفَرْع عَلَى أَصله، وتَوَهَّم عَلَيْه هَذَا الْبَاب من الْعَيْب، ونَعَاه عَلَيْه، وتكلف بإغفاله إِصْلَاحه عِنْد نَفسه، بخطأ أَتَى بِهِ من عِنْده، وذُكِر هَذَا فِي بَيْتَيْنِ من كلمة امرىء الْقَيْس الَّتِي أَولهَا:

أَلا أنْعَمْ صَبَاحًا أيُّها الطَلَلُ البَالي ... وَهل يَعمنْ مَنْ كَانَ فِي الْعُصُر الخَالِي

والبيتان:

كأنِّي لَمْ أرْكَبْ جَوَادًا للذةٍ ... وَلَم أتبطَّنْ كَاعِبًا ذَاتَ خَلْخَالِ

وَلَم أسْبأ الزِّقَّ الرَّوِيَّ وَلَم أقُلْ ... لِخَيْلِي كُرِّي كَرَّةً بعد إجْفَالِ

فَظن أَن امْرأ الْقَيْس قلبَ وَجْهَ التَّرْتِيب، وعَدَل عَنْ مَحَجَّةِ التَّأْلِيف، وأتى بِذكر الْجواد

<<  <   >  >>