للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

دَفْعِ شكٍ عَرَضَ لَهُ، وَلكنه لاستظهاره قصد حَسْمَ شَغَبِ خَصْمِهِ، وردَّه إِلَى الحقِّ عَن باطله. قَالَ الله تَعَالَى ذكره لنَبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا " " الْأَحْقَاف:٨ " وَقَالَ عزَّ اسْمه " أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افتريته فعليَّ إجرامي وَأَنا بريٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ " " هود:٣٥ " وَقَالَ جلّ ثَنَاؤُهُ فِي قصَّة يُوسُف عَلَيْهِ السَّلام " إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قدَّ مِنْ قبلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ. وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قدَّ مِنْ دبرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادقين " " يُوسُف:٢٦ - ٢٧ ". أَلا ترى إِلَى الْمُسَاوَاة فِي الشَّرْطَيْنِ وجوابَهما، وَإِلَى الْحِكْمَة وَالْمُبَالغَة فِي التفقه وَجَمِيل المحاورة، والتبدية بِذكر المبطلة وَتَقْدِيم الْإِخْبَار عَن تصديقها إِن كَانَت لَهَا الْحجَّة، وَهَذَا بابٌ وَاسع. وَقد قَالَ قَائِلُونَ إِن قَوْله أَو إيَّاكُمْ بِمعنى وَإِيَّاكُم، وَزَعَمُوا أَن أَو بِمعنى الْوَاو، فادَّعوا مثل هَذَا فِي مَوَاضِع من الْقُرْآن كَثِيرَة، كَقَوْلِه تَعَالَى: " مَثَلُهُمْ كمثلٍ الَّذي اسْتَوْقَدَ نَارًا " " الْبَقَرَة:١٧ " ثُمَّ قَالَ: " أَوْ كصيِّبٍ مِنَ السَّماء " " الْبَقَرَة:١٩ " وَكَقَوْلِه: " فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أشدُّ قَسْوَةً " " الْبَقَرَة:٧٤ " وَقَوله تَعَالَى: " وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ ألفٍ أَوْ يَزِيدُونَ " " الصافات:١٤٧ " وَقَوله تَعَالَى: " فَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا " " الْإِنْسَان:٢٤ " وَزَعَمُوا أَن أَو قد تَأتي بِمعنى الْوَاو، واستشهدوا بقول الشَّاعِر:

فَلَو كَانَ البكاءُ يردُّ شَيْئا ... بكيتُ على بجيرٍ أَو عفاقِ

على المرءين إِذْ مضيا جَميعًا ... لشأنِهما بشجوٍ واشتياق

الْمَعْنى عل بحير وعفاق، وَاسْتَدَلُّوا على هَذَا بقوله: " على الْمُؤمنِينَ "، وَمثله قَول جرير:

نَالَ الْخلَافَة أَو كَانَت لَهُ قدرا ... كَمَا أَتَى رَبّه مُوسَى عَلَى قَدَر

وأبى مُحَقّقَةُ النَّحْوِيين هَذِه الطريقةَ، وتأوّلوا كلَّ شيءٍ مِمّا أَتَى هَؤُلاءِ بِهِ وتلوه واستشهدوا بِهِ وَرَوَوْهُ على خلاف تأويلهم. وإنَّما أوقعَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَن " أَو " تكون بِمعنى الْوَاو فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ من خلاف الْقيَاس الْمُمَيز بَين الْأَلْفَاظ الْمُخْتَلفَة الْمعَانِي فِي أُصُولهَا، وَإِنَّا تقاربت فِي بعض وجوهها، وجودُهم ألفاظًا اشتبهت عَلَيْهِم لتقاربها، فخلطوا بَعْضهَا بِبَعْض، وَلم ينعموا النّظر فِيهَا، فيحصّلوا تمييزها، ويقوا على مَا يختصّ بِهِ كلُّ نوعٍ مِنْهَا، ويتبّينوا أَوْجُهَ تقاربها وعلَّةَ اشتراكِها وتداخلها، وَذَلِكَ كقولِهم: اجْلِسْ فِي السوقِ أَو الْمَسْجِد، وجالس الْحَسَن أَو ابْن سِيرِين، وخالطَ الفقهاءَ أَو النَّحْوِيين، وكلِ اللَّحْم أَو الشَّحْم، وَالتَّمْر أَو الزَّبِيب، والرُّطب أَو العنبَ. وَهَذَا بابٌ يُسَمَّى بَاب الْإِبَاحَة وَلَيْسَ من بَاب الشَّك وتَخير أحد الْمَذْكُورين وحظر الْجمع بَينهمَا. فلمَّا لَمْ يُحْكِمُوا معانيَ هَذَا النَّوْع على حَقِيقَتهَا، وأغفلوا ملاحظةَ تفصيلها وتَمييزها ذَهَبُوا عَن وَجه الصَّوَاب فِيهَا. ولتفصيل مَا يشْتَمل هاذ الْبَاب عَلَيْهِ وَشرح علله وَاسْتِيفَاء شعبه وأقسامه موضعٌ هُوَ أخصّ بِهِ.

<<  <   >  >>